Atwasat

نبضات متقاطعة 12- ونسينا الفرحة بالعوايات

محمد عقيلة العمامي الإثنين 09 ديسمبر 2019, 12:41 مساء
محمد عقيلة العمامي

رئيس المجلس التنفيذي لولاية برقة؛ يعني ثاني رئيس حكومة في برقة؛ وهو الرجل النزيه الشريف العصامي: ونيس القذافي، الذي أعرف أنه كان يسكن مع أخته (الحاجة غزالة) والدة خليفة عبدالله الفلاح، أحد رفاق صبية شارع محمد موسى، وكان لا يفصل منزله سوى بيت الحاج بوجازيه، عن حوش المقيرحي، الذي يؤجر غرف بيته لعدة عائلات.

وكان (سي ونيس) ممن حضروا عزاء والدة، ثم والد صديقنا (المصدي). ولم يطل الوقت حتى نقلته الدولة الوليدة بسبب طبيعة وظيفته إلى شارع (ادريان بلت) الذي يُعد، في ذلك الوقت، حيا راقيا.

شارع (ادريان بلت) بسيط، كان على جانبه الأيمن مقر الحكومة، ثم أصبح مقرا للجوازات، وكان يقع مكان العمارة الحكومية الضخمة التي تحوي عددا من المصالح، قبل الدمار الذي أصاب بنغازي من بعد ثورة فبراير2011. ثم (جراند هوتيل) أو الفندق الكبير، الذي لم يكن كبيرا على الإطلاق، ثم (فيلات) صغيرة، ومبنى من طابق واحد على مساحة كبيرة، كان مقسم الهواتف، ومن بعده فيلات صغيرة هي التي أصبحت جزءا من إذاعة بنغازي. ثم مبان من طوابق بشقق مختلفة، في إحداها سكنت أخوات جلالة الملك إدريس وكان يزورهن بانتظام.

ومن جهة اليسار، امتداد لمساحة الميدان القائم الآن أمام المسرح الشعبي، ثم مبنى مجلس النواب، وهو مبنى عتيق شغلته عدة مصالح آخرها الإدارة العامة للجامعة الليبية. محل(سي الصغير) الذي كان ابنه فرج تلميذا معنا في مدرسة الأمير، ملاصق لمبني مستودع لسيارات الفيات، وبعدها مجموعة فيلات من طابقين وخلفهما مساحة، كميدان يفصل بين الفيلات ومدرسة بنغازي الثانوية، ثم أصبحت للبنات من بعد نقل البنين إلى المدرسة التي تسمت فيما بعد بشهداء يناير، وهي بالمناسبة لم تشيدها الدولة الليبية الفقيرة، وإنما شيدتها هيئة اليونسكو. والآن، فوق أطلال تلك المدرسة ينتصب مبني الدعوة الإسلامية، وعلى يسار تلك المساحة مبني الكشافة. أما على يمينها، كان هناك مبني هو في الأساس مطار بحري، لأنه يقع على حافة بحيرة كانت مرتبطة بالميناء، وهو الذي افتتحه الشيخ محمود بوهدمة سنة 1962 ناديا الهلال.

هذا هو "الحي الراقي" الذي كان بالأصل مساكن لرجال الجيش البريطاني الذين تولوا إدارة البلاد قبيل إعلان الاستقلال، وإلى هذا الشارع نقلت الدولة رجالها، وإن كانت بعض مساكن هذا الحي الراقي خصصت، لعائلات بسيطة فقدت عائلها مبكرا، وهو الذي عمل بإخلاص في خدمة الدولة الوليدة، وخلف وراءه أطفالا، فأكرمتهم بسكن لائق؛ أذكر منهم عائلة على البكوش، وعائلة المرحوم على المهدي الجيلاني، الذي رحل مبكرا مخلفا خمس فتيات وأمهن، فخصصت الدولة لهن منزلا ملاصقا لمنزل شيخ ومجاهد حقيقي، ويعد أحد صناع دولة المملكة، تولى عددا من المناصب القيادية منها والٍ لبرقة، ورئيس لمجلس الشيوخ، وهو الشيخ محمود بوهدمة. والعجيب أن سكن الدولة هذا لم يملك لهما أبدا في العهد الملكي، لا لوالي برقة ولا لعائلة على الجيلاني، غير أن منزل عائلة الجيلاني مُلك لهم في عهد القذافي، وليس قبلها، وأعرف أن منزل الشيخ محمود بوهدمة لم يملك له، لا في العهد الملكي، ولا في عهد القذافي. وأنا أقول ذلك لأن إحدى بنات المرحوم على الجيلاني هى والدة ثمانية من أطفالي!. وما زالت علاقة وثيقة تربطني بالدكتور عبد العزيز بوهدمة ومنه عرفت أن منزلهم لم يملك لهم أبدا، بل أخرجوهم منه من سقوط الملكية، ولا أحد من ليبيا لا يعرف تاريخ الشيخ محمود بوهدمة، ودوره في قيام الدولة ونزاهته وعفته.

وخصص حي (السكابلي) لمعظم رجال الدولة، وإن كان بعضهم لم يغادروا مساكنهم على الرغم من توليهم العديد من المناصب القيادية؛ منهم رجل دولة المملكة من بدايتها، إذ كان والي برقه، وهو السيد حسين مازق، الذي كان يسكن شارع قصر حمد ولم يغادره إلاّ بعد سقوط الحكم الملكي، وخروجه من السجن، الذي أودع فيه ظلما.

الخلاصة، والواقع أنه لم تكن في بنغازي، طبقات متميزة بأحيائها وشوارعها، ولا بسلوكها ولكن بدأت على استحياء من بعد اكتشاف البترول وتصديره. لقد بدأت طبقة من التجار والأثرياء المحدثين تتبرعم، بسبب الطفرة الأولى، ومع ذلك من دون أن يكون لهم حي محدد، وإنما منازل حديثة، انتصبت هنا وهناك؛ وكيفما كان الحال، لم تكن هذه الطفرة بمستوى الطبقتين اللتين سنتناولهما لاحقا، وهما ما مررت بهما في مشوار حياتي، وسنرى حجم التباين المادي وتأثيره اجتماعيا، وثقافيا، وأخلاقيا.

لم يعد الكثير من رجال بنغازي، وشبابها ينتظرون "عواية بابور البحر" التي كانت بمثابة دعوة لرجال ينطلقون نحو ميناء بنغازي البحري، من بعد انتظار طويل في المقاهي ونواصي الشوارع، إنها بمثابة إعلان عن فرصة عمل في تفريغ حمولة سفينة قادمة من وراء البحر، وتحميلها بمنتجات البلاد، التي كان أغلبها حديدا من مخلفات الحرب العالمية الثانية. ولكن بعد اكتشاف النفط، لم تعد أذان الرجال تسترق، وتترقب، أصوات (عوايات) السفن، التي كثر قدومها محملة بما تحتاجه حقول النفط من معدات وأنابيب، وكثرت معها عربات النقل المخصصة لهذا العمل، وتوفر العمل للذين لا يجيدون مهنة ويعتمدون على قواهم البدنية. ولم يعد السداد (على العواية) وهو مصطلح يعني أن دفع قيمة سلعة أو خدمة يتحقق بمجرد وصول باخرة والعمل في تفريغها أو تحميلها. لم تعد ليبيا ثالث أفقر دولة في العالم، حتى أن (كرشة) مسلوقة معلبة توفرت في أسواقها! وسنعرف في الحلقة القادمة أنه بالليل ترقص في نواديها الليلية فرق من اليونان وإسباني.