Atwasat

سطوة الآيديولوجيا (1- 2)

عمر أبو القاسم الككلي الأحد 08 ديسمبر 2019, 01:13 مساء
عمر أبو القاسم الككلي

مقالي "نقد النقد" (بوابة الوسط. 22 سبتمبر 2019) الذي أشرت فيه إلى اكتشافي أهمية جورج طرابيشي في قراءة التراث الفكري العربي الإسلامي، من خلال نقده التفصيصي والتفصيلي الذي يتابع فيه كتابات د. محمد عابد الجابري، خصوصا في مشروعه الكبير الذي أعطى له عنوانا عاما هو "نقد العقل العربي"، بفرز جمله جملة جملة، مثلما يفرز من ينقي العدس، مثلا، حباته حبة حبة لاكتشاف ما يمكن أن يكون قد خالطها من حبوب شبيهة غير مرغوبة أو حصى أو بعض الحبات الفاسدة، حفز محمد خليفة لكتابة مقال أعطاه عنوان "فضاء نقد النقد" نشر على حلقتين (بوابة الوسط: 31 سبتمبر، 7 اكتوبر 2019) يخلص فيه إلى أن "طرابيشي لا يحمل ودًا، أو احترمًا، للإسلام وأهله، وموقفه السلبي منهما موقف لا يمكن أن نقرأ أسوأ منه عند أشد المستشرقين عداءً للإسلام" وذلك لكون طرابيشي غير مسلم.

فناقشت أنا مقاله في مقال آخر تحت عنوان "نقد على الهوية" نشر على حلقتين هو الآخر (بوابة الوسط: 13أكتوبر. 20 أكتوبر 2019). رددت فيه على بعض ما أثاره من نقاط رأيت أنها تنطلق من منطلقات خاطئة. رد عليها هو بمقال "نقد المفاهيم (الوسط: 21 أكتوبر 2019)" وآخر مقال له يناقش فيه منطلقات جورج طرابيشي الآيديولوجية (وهو رد ضمني على ما كتبته) كان بعنوان "الجابري وطرابيشي: الايديولوجي والابستيمولوجي: (الوسط: 23 نوفمبر 2019)".

ونقاشي الحالي يختص بهذا المقال.
منذ البداية يقرر محمد خليفة أن "نقمة طرابيشي على الجابري سببها آيديولوجي وليس ابستيمولوجيا" ورغم أنني لا أستسيغ استخدام العبارات ذات الشحنات العاطفية في النقاشات الفكرية من مثل "نقمة"، إلا أنني سأمضي إلى ما هو أهم.
يرى محمد خليفة أن نقد طرابيشي للجابري ذو وجهين، ظاهر (جهري) وباطن (سري). الوجه الظاهر ابستمولوجي أما الباطن فآيديولوجي. ونحن لا نعارض في أن أي خطاب يحمل، بالضرورة وبهذا القدر أو ذاك وبوعي أو بدونه، عنصرا آيديولوجيا. لكن هذا موضوع آخر.

يرى محمد خليفة أن طرابيشي "يعتقد... أن الجابري يخفي هويته الإسلامية تحت عنوان ‘‘العقل العربي‘‘ ". والمشكلة التي تواجهنا هنا أن محمد خليفة لا يدلل على هذا التقرير بشواهد من كلام طرابيشي. لكن أمامنا، من كلام طرابيشي، ما يدل على عكس ذلك.

فطرابيشي لا يؤاخذ الجابري على إخفائه هويته الإسلامية أو إظهارها، فهو لا يناقش المعتقد الديني لدى الجابري، بل يؤاخذه على اعتباره منتصف القرن الثاني الهجري "إطارا مرجعيا يتيما للعقل الذي يتصدى لنقده" (1: 59)* قافزا "فوق الواقعة القرآنية" (ن. ص). أي على تدوين القرآن الذي "هو التدوين الأول، النموذج الأول لكل تدوين لاحق" (ن. ص). وينتبه طرابيشي إلى أن الجابري "عند تصديه للعقل اللغوي في الحضارة العربية الإسلامية... يقفز قفزة معاكسة إلى الوراء، إلى جاهلية ما قبل الإسلام، ليؤكد على ضوء موروثها أن ‘‘الأعرابي صانع العالم العربي‘‘" (ن. ص). أي أن الجابري يقفز "إلى ما بعد الواقعة القرآنية بقرن ونصف وإلى ما قبلها بقرن ونصف دون التوقف عندها هي نفسها بوصفها المعطى الأول والأكثر مركزية للإطار المرجعي للعقل العربي؟" (ن. ص). وواضح أن هذا النقد ينطلق من منظور تاريخي وأيضا من منظور إبستمولوجي. ذلك أن اتخاذ نقطة تاريخية معينة باعتبارها، هنا، بداية للتدوين، تترتب عنها نتائج معرفية (إبستمولوجية).

كما يأخذ محمد خليفة على طرابيشي معارضته تقسيم الجابري العقل العربي إلى عقل بياني وعقل عرفاني وعقل برهاني وتقسيمه "العقل العربي إلى مشرقي/ بياني ومغربي/ برهاني، لأن بغير هذا النفي المزدوج (المعرفي- الجغرافي) لن تقوم لنقد النقد قائمة". وفكرة محمد خليفة هنا غير مفهومة لدينا، بل ومحيرة. إذ من الطبيعي أن يرتكز "نقد النقد" على فرضيات وأطروحات نقيضة لتلك التي بني عليها النقد الأول. المعيار هنا هو مدى الوجاهة الفلسفية والمنطقية والموضوعية التي يحوزها هذا النقد التالي، أو ما يعبر عنه بالإنغليزية meta language. أي اللغة الناقدة أو المتعالية.
يقول محمد خليفة أن طرابيشي "ذكر ... أن هناك من أخذ عليه إضاعة جهده في نقد نقد الجابري، وكان الأحرى به [طرابيشي] أن يشتغل على مشروع يتجاوز الجابري، غير أن طرابيشي اعتبر الجابري عقبة ابستيمولوجية لابد من نسفها".

وصف طرابيشي الجابري بالفعل بأنه "بات... عقبة ابستمولوجية". ولكن في السياق التالي:
"... الجابري، بالقوة التي يتبدى عليها خطابه وبالشهرة التي نالها وبإحكام الإشكاليات التي اعتقل فيها العقل والتراث العربيين، قد بات يشكل ما أسماه باشلار عقبة ابستمولوجية. فالجابري قد نجح – لنعترف له بذلك – في إغلاق العديد من أبواب التأويل والاجتهاد. وما لم يعد فتح ما أغلقه، فإن الدراسات التراثية لن تحرز بعد الآن تقدما، ولا كذلك عملية تفكير العقل العربي بنفسه انطلاقا من تراثه ومن توسطه التاريخي ما بين العقلين اليوناني القديم والأوربي الحديث" (2: 8) ويقول "ما صنع مجد الجابري... هو... من طبيعة إبستمولوجية. فما يميز الجابري عمن تقدمه من الذين كتبوا عن العقل العربي هو قوة تأسيسه النظري، أو الإبستمولوجي كما يؤثر أن يقول، لهذا العقل، ورفعه من مستوى اللفظ أو المعنى إلى مستوى المفهوم" (2: 12).

ويقول أيضا "قراءة ‘‘تكوين العقل العربي‘‘ قد غيرتني فعلا. فلولاه لما كنت عاودت، خلال الثماني سنوات التي تصرمت، بناء ثقافتي الفلسفية والتراثية" (: 9).

وإذن، طرابيشي استخدم تعبيرا متداولا في مباحث أصول المعرفة [الإبستمولوجيا] ولا يقصد منه السباب، بل إعادة النظر في كتابات المفكرين والفلاسفة، وهذا، ليس حقا مشروعا فقط، وإنما يتحول إلى واجب يقع على عاتق المفكرين. وفي مكان آخر يقول طرابيشي في هذا السياق:

"فالواقع أن الجابري قدم لي المناسبة، التكئة، نقطة الانطلاق، ولكن ليس محطة الوصول. فقد كف مشروعي عن أن يكون مشروعا لنقد النقد ليتحول أيضا إلى إعادة قراءة وإعادة حفر وإعادة تأسيس. أو هذا ما أرجوه على الأقل" (3: 9).

وفي هذين الموقعين لم نجد لفظة "النسف". إلا إن كان محمد خليفة وجدها في موقع آخر.
ويضيف محمد خليفة: "تأسيسًا على ما سلف يكون نقد طرابيشي لنقد الجابري غير ذي جدوى، في نظري، إلا إذا أمكن أن يكون الهدم/ التفكيك وليس البناء هدفًا معرفيًا".
إلا أن طرابيشي يقول بهذا الخصوص: "إذن، فالنقد ليس مجرد تفنيد وهدم. ومع ما يقتضيه من تفكيك، فإنه لا يؤتي مفعوله ما لم يرسِ رؤية بديلة، أي في المجال الذي نحن بصدده قراءة نقدية وعقلانية مغايرة ومجددة معا للتراث العربي الإسلامي" (3: 10).

المصادر والملاحظات:
* يشير الرقم الأول إلى رقم المرجع في القائمة أدناه، ويشير الرقم الثاني إلى الصفحة المنقول عنها.
1- جورج طرابيشي. اشكاليات العقل العربي. دار الساقي، بيروت – لندن. ط4. 2011.
2- جورج طرابيشي. نظرية العقل. دار الساقي، بيروت لبنان. ط4. 2011
3- جورج طرابيشي. العقل المستقيل في الإسلام؟ دار الساقي، بيروت – لندن. ط2. 2011