Atwasat

جنّة.. جنتّان وموال جنّات

جمعة بوكليب الخميس 05 ديسمبر 2019, 12:03 مساء
جمعة بوكليب

المسافة التي تفصلهما عن بعضهما، في الشارع الرئيس بوريستر بارك، جنوب غرب لندن، لا تزيد على خمسين متراً. على الجهة اليمنى من الرصيف، يقف أعضاء أفراد الفريق الأول من المبشّرين بالنصرانية. وعلى الجهة اليسرى منه، يقف أعضاء الفريق الثاني من الدعاة المسلمين. فريق المبشرين مختلط، من الجنسين. ويقتصر فريق الدعاة المسلمين على الذكور. الفارق في الأعمار واضح، ولصالح فريق المبشرين. ونقطة أخرى، أيضاً، تمنح لأعضائه على حسن القيافة وأناقة الهندام.

إلى حد الآن. تقام المباراة، سلمياً، وحضارياً، في أيام السبت، من كل أسبوع. ولكن ليس بانتظام. فريق الدعاة كثير التغيّب، ولا يظهر أعضاؤه إلا لماماً. في حين يحرص أعضاء فريق المبشّرين على التواجد، في نفس المكان والموعد من كل أسبوع، ما أمكنهم ذلك.

العادة، أيضاً، أنني أحرص على تجنب وتفادي أعضاء الفريقين. وخاصة، أعضاء فريق المبشّرين، لأنهم يحرصون على تقديم التحية بأصوات مسموعة، ومحاولة فتح حديث ولو قصيرا مع العابرين، من دون تطرقهم إلى موضوع الهدف الذي جاءوا لأجله.

فريق الدعاة الذكوري، عادة ما يلتزم أعضاؤه الوقوف صامتين ، ولا يتكلمون إلا إذا وقفت عليهم، وحاولت تجاذب أطراف حديث معهم.

يتكون كل فريق، في العادة، من أربعة أعضاء. قد ينقصون واحداً، لكنهم لا يزيدون على ذلك. لا أحد من أعضاء الفريقين، حسب مشاهداتي، يفكر في مد جسور الود والحديث مع أعضاء الفريق الآخر. ويحرص كل فريق على الالتزام بزاويته، وبركنه من الرصيف، والانشغال بأمر إقناع العابرين بجنّته الموعودة. وهذا يعني وجود أكثر من جنّة للعرض في وريستر بارك: واحدة نصرانية، وأخرى إسلامية. وعلى المرء أن يختار في أي جنّة منهما يريد أن يحشر، ويقضي آخرته.

لكن، وحتى يومنا هذا، لا وجود لجنّة يهودية معروضة. وأعترف أنني، طوال أكثر من ثلاثة عقود زمنية، لم ألمح، أو أعثر، أو أسمع بدعاة أو مبشّرين من الطائفة اليهودية، في شوارع المناطق التي عشت فيها، في أكثر من مدينة في بريطانيا. وكأن أبناء الطائفة اليهودية مستكفون بما لديهم، أو ربما يعود ذلك لعلاقة ارتباط الديانة اليهودية برابطة الدم الأمومي. وعلى العموم، فإن أكثر المبشّرين هم من أهل الطائفتين النصرانية باختلافهم، والإسلامية باختلافهم أيضاً.

الديمقراطية البريطانية، والقيم الليبرالية الغربية، والتسامح، وعش ودع غيرك يعيش... إلخ تفرض حضورها، على الجميع، وتحظى بالمراعاة وبالاحترام من الجميع: مبشرون ودعاة. وبالتالي، لا أحد يفكر في جَرّ الناس، غصباً عنهم، إلى جنّته الموعودة. مهمة أعضاء كل فريق تتجسد في مهارتهم في نصب شباكهم، والايقاع بمن جاءهم راغباً، بالحجج وبالادلة وبالبراهين والحجج الدينية المتوفرة. وهذا يعني أن المتطرفين من الطائفتين لا مكان لهم على زوايا الرصيف، ولا حقوق لهم في عرض سلعهم على الناس.

ما يهمُّ في هذا الأمر كله، هو أن الجنّة الموعودة، والمعروضة في وريستر بارك، أو في غيرها من المناطق والمدن البريطانية، ليست واحدة، وليست مقتصرة على ديانة دون غيرها. فللنصراني جنته، وللمسلم جنته،....إلخ، ويستثنى من تلك الجنّات الأخروية، البُنَيّة التي اسمها جنّات، وكانت تقيم في شارعنا، زمان، في المدينة القديمة.

والحقيقة، أنا لا أعرف بوجود علاقة تجمع بين الجنّتين المعروضتين أسبوعياً، في وريستر بارك، وابنة شارعنا، زمان، المسماة جنّات. ولا أعرف حتى السبب الذي دعا والديّ جنّات إلى إطلاق ذلك الاسم الغريب عليها. لأن أقوالها، وأفعالها لا علاقة لها بأي جنّة، بل أبعد ما تكون عن أي تصور، عن أي جنّة، في أي ديانة. وكان من الأفضل لو أنهم أطلقوا عليها اسم آخر.

العلاقة بين جنّات والجمال معدومة. وانعدام العلاقة بالجمال لا يعني انعدام العلاقة بالذكاء والدهاء. لأن جنّات كانت بنت ذكية، وداهية، ومن النوع الذي يأمر الشيطان فينصاع لأوامرها منفذاً. وافتقاد الجمال لا يعني أن أولاد الشارع لا يعيرونها اهتماماً، بل العكس صحيح. لأن أولاد الشارع كانوا مستعدين لفعل أي شيء تطلبه منهم جنّات لكي يأمنوا شرورها، ويفوزوا برضاها، ويتأهلوا للاستفادة مما تقدمه شبكات علاقاتها الاجتماعية الكبيرة من فوائد خاصة مع الجميلات من بنات الشارع، والشوارع المجاورة.

ما يميز جنّات أنها تتصرف بما يمليه عليها مزاجها. ولا تريد لأحد أن يوقفها عند حدها، مهما عظم شأنه. وربما لهذه الأسباب، ولغيرها، وجدت الطريق مفتوحاً أمامها، أيام حكم القذافي، لتنظم لحركة اللجان الثورية، بل وتكون من الأمهات المؤسسات لحركة الراهبات الثوريات. وربما، أيضاً، لهذه الاسباب ولغيرها، انضمت جنّات إلى كوادر القوات المسلحة، وحظيت بالقبول في الكلية العسكرية للبنات، رغم فشلها في الحصول على الشهادة الثانوية.

الغريب أني لم أعد أسمع بأخبار جنّات، منذ 2011، ولا أعرف، على وجه التحديد، أن كانت ما زالت تعيش في طرابلس أم سجنت ، أو قتلت، أو هاجرت إلى بلد آخر.
لكني لا أستغرب جداً إن كانت لا تزال تعيش في طرابلس، وتسير بحماس تحت راية أخرى، ولأهداف لا تختلف، كثيراً، عن أهدافها السابقة، مثلما فعل كثيرون، من ذوي القبعات الخضر سابقاً، وما زالوا!!