Atwasat

تحت أردية القانون الجذابة

سالم العوكلي الأربعاء 04 ديسمبر 2019, 11:47 صباحا
سالم العوكلي

في إحدى زياراتي للمغرب، التقيت سائحاً سويسرياً في مدينة طنجة، وفي حوار من خلال إنجليزيتينا المكسرتين فهمت منه أنه يعشق المغرب (ماروك) ولا يفوت فرصة كي يقضي فترة فيها هارباً من بلده، وحين قلت له إننا نعتبر سويسرا جنة على الأرض، قال لي: كانت، لكن القوانين الصارمة حولتها إلى جحيم، وفسر سر هوسه بـ«ماروك» بكونه يتمتع فيها بحرية المجتمع الذي لم يصنع بعد قيوده من القوانين الصارمة. من جانب آخر؛ يكثر في المنطقة، هذه الأيام، الحديث عن تبرير قمع الحريات الدستورية بذريعة تطبيق القانون، وهكذا يكتسب حضوراً ميتافيزيقياً في الأذهان المستسلمة لرهبته.

أطالع الآن كتاب «الإرهاب المقدس» لمؤلفه: تيري إيجلتون، ترجمة: أسامة إسبر. وهو كتاب يحاول كما يأمل مؤلفه أن يضع فكرة الإرهاب في سياق «ميتافيزيقي» أكثر أصالة. وفي الفصل الثاني المعنون بـ«حالات السمو» يطرح فكرة إدموند حيال القانون كونه صورة مجسدة للسمو؛ لأنه يجمع بين الإرهاب واللين وبين الإكراه والإذعان، فإذا كان القانون يتمتع بهيبة شديدة فهو يحظى أيضاً بخضوعنا العاطفي، وهذه العلاقة الماسوشية مع القانون هي التي تحمي نظامنا الاجتماعي كما يبدو: «يرى بيرك أن القانون ذكوري، وكان بيرك مطلعاً بما يكفي على هول المشنقة من خلال خلفيته الأيرلندية بحيث إنه لم يستخف يوماً بأهوالها. فأحكام القانون الصارمة يمكن أن تصدمنا وتحولنا إلى تافهين ثرثارين، وهذه الطريقة نادراً ما كانت هي الطريقة الناجعة لخلق مواطنين ممتثلين للقانون». ويرى بيرك أن إرهاب الدولة المفلت العنان، يحرض على التمرد بدل أن يهدئه. ولا ينتبه أحد إلى هذا المحذور اليوم. فهذا القانون الذكوري مثله مثل الإرهابي، يشن علينا اعتداءً سادياً مفرطاً يتجاوز خطورة أخطائنا. إنه أشبه بالشيطان أو الأنا العليا، حيث لا نستطيع أن نبرر أنفسنا أمامهما. وهو يقوى على حساب ضعفنا، لأنه سيكون دون فاعلية دون هفواتنا وجنحنا التي يرفضها ويعاقب عليها. هنا يتجلى امتياز الحب.

يقول بيرك في أطروحته في عالم الجمال: «ينبغي أن يظهر القانون مقنعاً، مرتدياً ثياباً أنثوية كي يخفي عضوه القبيح. يجب أن تخالطه العذوبة والرقة كي يلطف ويحقق ما يمكن أن ندعوه الآن بالهيمنة».

لعل هذه السمة الخنوثية في القانون هي ما كان يبحث عنه السائح السويسري، وكنت أنا القادم من بلد يشتاق فيها المواطنون لدولة القانون مرتبكاً حيال هذه المفاهيم التي تتقلب حول فكرة القانون والحرية، وهي ثنائية جدلية استنزفت الكثير من الحبر، وشكلت تيمة رئيسية لكثير من الروايات والأعمال المسرحية التي يعتمد عليها المؤلف لتعزيز أفكاره حيال الموت والشر والتضحية والسامي.

يعتقد السائح أنه قادم من مجتمع أبوي بطركي صارم وحاد صوب مجتمع مازالت لمسة الأنوثة فيه تسري في القوانين التي تسمح لك بأن تركن سيارتك مجاناً أين شئت وتشعل لفافاتك أين شئت، دون الخوف من كوابيس الفواتير التي تطرق بابك كل نهاية شهر، وخوف أن ترمى في الشارع إذا عجزت عن تسديد رهنك. وهذه القسوة الأنيقة التي تحيل منفذ القانون إلى روبوت دون مشاعر ربما هي من جعلت ذاك السائح يصف جنة خيالنا بالجحيم.

يرى بيرك أن «النساء جميلات بينما الرجال سامون، ولا تستطيع إلا قوة خنثوية تجمع بين الأبعاد الجمالية وأبعاد التسامي أن تبرهن على أنها فعالة. لذا ينبغي أن يكون القانون كابحاً كرجل وملاطفا كامرأة، فهو يعاقبنا كأب ولكنه يعاملنا كأم. ويقترح بيرك في أطروحته في علم الجمال، على نحو بارع، أن تكون له شخصية الجَد قائلاً بأنه يجمع بين القوة الذكرية والرقة الأنثوية... ينبغي أن يرتدي ثياب الجنس الآخر، ويخفي جنسه الحقيقي. ورغم ذلك فهناك دوماً تموجات منفرة في أرديته الجذابة».

في كل مجتمع تكمن طاقة هائلة من العنف واستفزازها عادة يكون مدمراً للقيم المبني عليها المجتمع؛ أخلاقية أو قانونية، فالحرية تنطوي على مضمون فوضوي مفرط لا يمكن التحكم فيه إلا من خلال القانون والنظام، والأسوأ، كما يقول إيجلتون: «هو أن القانون نفسه يصبح نسخة مصعدة من العنف والإرهاب الذي يحاول احتواءه». ويفسر ذلك عبر قراءة نماذج إرهابية تتعرض لها المجتمعات، أو بالأحرى، السياسات التي تعيش ذروة الجدل بين الحرية والقانون وغطائهما الأخلاقي: «لقد ظهر هذا التموج المنفر تحت الأردية الديمقراطية للغرب مكشوفاً بنحو صارخ منذ تدمير مركز التجارة العالمي في نيويورك... وهكذا فكلما رد المجتمع الغربي على الاعتداء الإرهابي بنحو غير شرعي، كلما استنزف الموارد الروحية والسياسية التي يعتبر نفسه حامياً لها. وهذا، دون شك، جزء مما يحسب له الإرهاب حسابه. إذ يصبح النصر ضد الإرهاب فشلاً، كما ينقلب الانتصار العسكري نفسه إلى هزيمة أخلاقية. ونحن سنرى فيما بعد انقلاباً مشابهاً للنصر لدى الإرهابيين أنفسهم». ودائما يطرح سؤال: من الذي يربح ومن يخسر في هذه المعركة مع الإرهاب. الإرهاب بمعناه الحالي الدارج الذي مازال دون تأصيل مفهومي أو تعريف ــ كما يقال ــ ويسعى هذا الكتاب لسد بعض الفراغ.

لعل هذا الحديث والاقتباسات عن انتقادات حادة لفكرة القانون وذكوريته الشرسة غريب بالنسبة لي في وطن ما زال يكرر حلمه ومطلبه بدولة القانون، ويبدو الأمر مثل تأثيم الحداثة أو ما بعد الحداثة كأطروحات مشبوهة رغم أننا لم نمر بهذه المراحل. غير أن القانون الذي غايته تحقيق العدالة والسلم الاجتماعي قد يصاب بالعمى ويغدو متوحشاً حين يستفز العنف في داخله ويصبح أداة لارتكاب الجرائم باسم الحفاظ على سلطة الدولة أو باسم الأمن القومي، أو حتى باسم رفاه المواطن، أو يتزين بأردية جذابة كمكافحة الظواهر السلبية، أو الأمر بالمعروف، أو مكافحة الإرهاب.
أذكر أنني نشرت إدراجاً على صفحتي بتاريخ 18 ديسمبر 2017 نصه: «تونس، مصر، ليبيا، اليمن، سورية: إذا أعاد الإرهاب نظم الاستبداد فسيكون انتصر حتى ولو قُضي على جماعاته الإرهابية بالكامل».