Atwasat

التوافق البعيد جدا..!!

سالم الكبتي الأربعاء 27 نوفمبر 2019, 12:41 مساء
سالم الكبتي

حين يعلو الغبار لاتتضح الرؤية تماما أمام الاْعين، فيما تظل الأقدام تائهة وغافلة عن الفخاخ. ويتعاظم فى الموسم الحديث بجدوى أو من دونها عن (الملف الليبى)، مصطلح صار ممجوجا وثقيلا يذكرك بالملفات القضائية أو الأمنية أو المشبوهة فى الأصل. صارت ليبيا ملفا مثل ملفات الطلبات والرخص التجارية والحالة الجنائية. اْحيانا يحتاجون إلى هذا الملف.. يقلبون أوراقه. يمسحون عنه الغبار. يضيفون إليه أْوراقا أخرى. يتضخم مثل الورم. يعاد إلى الأدراج ويتم إهماله رغم أهمية الموضوع الذي يحمله.. ثم وسط الغبار يخرجونه مرة ثانية.. وهكذا. الملف الليبي بلا جدوى وسيظل كذلك.

ومع أن ليبيا صاحبة الملف ليست (مسألة محلية بسيطة) وإنما هى (مسألة دولية خطيرة) كانت محل تنازع على الدوام بين الشرق والغرب ومحل أطماع دون توقف إلا أن (طاحونة الشىْ المعتاد) تظل كما هي عليه.
لقد اْنتبه العالم بكل اأطرافه ثم ممثلا فى هيئة الأمم المتحدة إلى هذا الكيان الليبى الواقع بأقاليمه الثلاثة بين البحر والصحراء فعمل رغم الأطماع والمطامح والعيون الممتدة إلى أقصى مدى.. نحو الثروات والمياه والمعادن والموقع والشمس والتراب.. وكل شىْ. عمل وتوافق على مساعدة الليبين فى الخروج من دائرة الرماد والضياع. صارت ليبيا دولة. اْعترف العالم بهذا الحق وأصدر قراره رقم 289 فى الحادي والعشرين من نوفمبر 1949.

كان هذا التاريخ وهذا اليوم مهما للغاية. وظل الليبيون فى الأعوام الأخيرة يتجاهلونه ولايدركون أهميته. بل وينسبون كل ماحدث إلى الأمم المتحدة. وذلك سليم مائة بالمائة لكنهم ينسون أن هذا القرار لم يكن بمفرده. لم تتخذه الأمم المتحدة مجاملة اأو مسايرة. اأدركت اأن الليبين وراءهم تاريخ طويل من النضال والمعاناة تجاه حقب ظالمة وتوافقوا رغم الاختلافات فى وجهات النظر والآراء أمام تلك الهيئة فى انتزاع هذا القرار. عندما تحترم نفسك وشخصيتك يحترمك العالم وهذا ماحدث بالضبط. صدر القرار عندما ناقشت الأمم المتحدة وضع المستعمرات الإيطالية السابقة فى الحبشة والصومال وإرتيريا وظفرت ليبيا بالقرار التاريخى على أن يسري مفعوله في مدة لاتتجاوز الأول من يناير 1952.

وفي تلك القاعة المهيبة فى ليكسس واجه الليبيون عن طريق رجالهم الذين وضعوا فيهم الثقة والذين أدوا المهمة على أكمل وجه بدعم مادي شعبي تلك الأيام تكفل بالصرف والإنفاق بكل وطنية. وهنا يبرز الحاج يوسف لنقي وشقيقه عوض ورجل الأعمال شفيق خزام مثالا على ذلك ودائما (الوطنية الحقه تعمل ولا تعلن عن نفسها).

واجه أولئك الرجال محاولات التمييع والوصايه والتقسيم والاحتواء والتعطيل وتأخير الحلم للأجيال القادمة. كانت القاعات المجاورة تشهد نضالا دؤوبا وحراكا منقطع النظير لم يكن الفضل فيه للأمم المتحدة وحدها. واجه ألاعيب الإنجليز (الحلفاء) والأمريكان والروس. تضامنت معه أغلب الوفود العربية والإسلامية وأمريكا اللاتينية. وخنس بعض الأشقاء وطالبوا بتسوية الحدود أولا. ومع ذلك كله نجح الليبيون بتوافقهم فى ضرب هذه المشاريع وإفشال المحاولات الخبيثة. قدموا بهذا التوافق الأدلة والمستندات. كان صوتهم واحدا لم يخترقه أى صوت نشاز. عينت الأمم المتحدة رجلا رائعا من هولندا اسمه ادريان بلت وشكلت معه مجلسا استشاريا نجح فى وضع العلامات عبر الطريق الطويل. ولم يكن بلت وحده أيضا بل كان معه رجال الوطن الذين توافقوا وتعاهدوا على أن لايقر بجوف ليبيا ظالم أو مستعمر. خطوات تمت فى ظروف استثنائية. لجنة الواحد والعشرين التى كانت حجر الأساس لبداية التطور الدستوري فى ليبيا. كان الليبيون عندهم السلاح متوفرا ولم يستعملوه . رجحت كفة الرزانه والوطنية.. وصوت العقل. وكانت الأمم المتحدة. كانت ليبيا. كان العالم. كان الرجال هنا وهناك.

وثمة قرار تاريخى آخر ينساه الليبيون فى زحام انشغالهم بأمور عديدة. قرار عزز بقوة القرار الأول وأكد عليه صدر من الأمم المتحدة فى السابع عشر من نوفمبر 1950 وأوصى ب: (أن تجتمع جمعية وطنية ليبية تمثل سكان ليبيا تمثيلا صحيحا فى أقرب وقت ممكن وعلى كل حال فى مدة لاتتجاوز يناير 1951. وأن تؤلف هذه الجمعية الوطنية حكومة ليبية مؤقتة فى أقرب وقت ممكن على أن تضع نصب أعينها أول أبريل 1951 هدفا لذلك. وأن تنقل الدولتان القائمتان بأعمال الإدارة فى ليبيا - بريطانيا وفرنسا - السلطات تدريجيا إلى الحكومة الليبية المؤقتة بطريقة تضمن إنجاز نقل جميع السلطات من أيدى الإدارتين إلى حكومة ليبية مشكلة تشكيلا صحيحا قبل يناير 1952).

وفي خلال أسبوع وبتوافق الليبيين الذين ابتعدوا عن السلاح والعصي والسكاكين وارتفاع الحناجر انطلقت الجمعية الوطنية (الستين) والتقت فى أول اجتماعاتها بطرابلس في اليوم الخامس والعشرين 1950.
وعرف الشعب طريقه. سار بخطواته الرزينة وبصوت العقل حقق الكثير مع الأمم المتحدة التي لم تكن وحدها صانعة الاستقلال . تشكلت الحكومة المؤقتة. أعلن الدستور. ثم الاستقلال.
فمن لليبيين الآن بتلك الأمم المتحدة.. وأولئك الرجال؟

إنهم وحدهم في الطريق الموحش المظلم. لم يعد للعقل صوت. يعلو الغبار ويحجب الرؤية. تعقر المصائد والفخاخ الأقدم التائهة.

الليبيون لايريدون العودة إلى صوت الضمير الوطنى.. وصوت العقل. لم تعد ليبيا طرقاتها مستقيمة وصار الليبيون عوجا.

ليس لدى ليبيا نخب بمعنى الكلمة يرتكن إليها أو قوى وطنية مخلصة وجادة تنتمي للوطن ولاتنتمي للجنون.. وللمصلحة الشخصية والأنانية.

الجغرافيا الليبية قاربت على الضياع والاقتطاع بعد أن قارب ضياع التاريخ الليبي أيضا.

المصالح الدولية متشابكة ومتقاطعة وليست مؤثرة في الواقع الليبي لكنها فى كل الاْحوال متفقة على استمرار النزاع فى ليبيا.

الاْمم المتحدة حتى تاريخه لاتستطيع فعل أى شيء. فعام 2019 ليس عام 1949.

أمريكا نحن ليس فى وارد اهتمامها. مشاكل المنطقة البعيدة وعزل ترامب وقرب الانتخابات هناك وغيرها أْولى من ليبيا ومشاكلها.

الليبيون بيدهم الحل لاغيرهم .. لكنهم لايريدون رغم وقوع الفأس فى الرأس.

ادريان بلت ليس غسان سلامة الذى أشعر بأنه سيغادر مهمته المستحيلة قريبا.
أجل. قريبا.