Atwasat

يانصيب

جمعة بوكليب الأربعاء 27 نوفمبر 2019, 12:33 مساء
جمعة بوكليب

الذين ابتدعوا اليانصيب حرصوا على إضافة وصف الخيري  له، لإضفاء منحى أخلاقي واجتماعي يجعلانه مقبولاً لدى الناس، ومرغوباً منهم، بكونه مختلفا عن ممارسة رذيلة لعب القمار، ولأن الأموال المتحصل عليها من مجموع المشاركين فيه تتحول عبر قنوات رسمية إلى مساعدات مالية تقدم إلى مؤسسات اجتماعية ورياضية نشطة، تعنى بتقديم العون والدعم والتشجيع للأسر والعائلات المعوزة، وللشباب في المناطق والأحياء الفقيرة بهدف إبعادهم عن بؤر الجريمة والمخدرات وغيرها.

في شهر نوفمبر 1994 بدأ أول يانصيب خيري في بريطانيا. وصادف الأسبوع الماضي مرور الذكرى الخامسة والعشرين للمشروع، وبلغت قيمة الأموال التي حوّلت، خلال الأعوام الماضية، إلى المؤسسات الاجتماعية والرياضية قرابة 40 مليار جنيه استرليني.

ما يلفت الاهتمام، هو أن بريطانيا ربما تكون في آخر قائمة الدول الغربية الأوروبية التي أجازت اليانصيب رسمياً. ولا علم لي بالأسباب التي دعت حكوماتها  المتعاقبة إلى تجنّب الاقتداء بدول أوروبا الأخرى، وتبني اليانصيب الخيري، آخذين في الاعتبار أن نوادي القمار ومكاتب المراهنات، وغيرها قد تواجدت قانونياً، وانتشرت في كل مناطق البلاد، منذ صدور قانون ترخيص القمار والمراهنات في عام 1960.

وعلى ذكر اليانصيب، يمكننا الإشارة إلى تواجده في عديد من الدول العربية والإسلامية، جنباً لجنب، مع نوادي القمار ومكاتب المراهنات، منذ سنوات طويلة، ربما تعود إلى فترات الحكم الاستعماري الأوروبي لتلك البلدان. وأذكر أن اليانصيب كان من ضمن المناشط المجازة قانوناً، في مدينة طرابلس، منذ فترة الاستعمار الإيطالي، مع محلات بيع المسكرات، ونوادي القمار، والملاهي الليلية. وحين حظيت ليبيا باستقلالها، لم تقم الدولة الجديدة بإلغاء ما كان سائداً من تلك المناشط، على أرض الواقع، بل تركتها على حالها، مع تغيير طفيف يتمثل في حصر ملكيتها وإدارتها على أفراد  من غير أتباع الديانة الإسلامية.

وبالتالي، ظلت حكراً على المستوطنين الإيطاليين، والجالية اليهودية. وكانت معظم تلك المحلات تبيع تذاكر اليانصيب. وفي مساء كل يوم خميس، تقام منصة خشبية بميدان الجزائر، بطرابلس، ويوضع فوقها برميل خشبي كبير يسهل تدويره توضع به الأرقام. ويؤتى بصبي من صبيان مدرسة الفنون والصنائع الإسلامية، المخصصة منذ العهد العثماني الثاني، لإيواء الأطفال اليتامى والفقراء وتعليمهم وتأهيليهم مهنياً، ليقوم بسحب الأرقام الرابحة من البرميل، أمام الناس المتجمعين حول المنصة. ولدى سحب الصبي لورقة تحمل رقماً يقوم بتسليمها إلى شخص إيطالي، يقوم بفتحها، وإعلان الرقم للجمهور، وهكذا. إلا أن نظام القذافي، أصدر قوانين بإلغائها جميعاً.

قانون الحكومة البريطانية بإجازة القمار في عام 1960 جاء اعترافاً بفشلها في محاربة نوادي القمار والمراهنات المنتشرة تحت الأرض. وبالتالي، اختارت وتبنت وجهة نظر براجماتية – نفعية تؤكد على ضرورة فتح الأبواب قانونيا أمام القمار ورواده لممارسته فوق الأرض، وتحت رقابة القانون، وعيون منفذيه من أجهزة الأمن، والاستفادة من الضرائب التي ستجنى منه، وفرص العمل التي سيوفرها لآلاف المواطنين. السؤال حول عدم تبنيها لليانصيب الخيري، منذ ذلك الوقت، رغم وجوده في غيرها من العواصم الأوروبية، يظل بدون إجابة.

اليانصيب واحد من وجوه عديدة للقمار، واختلافه عنها ينحصر في أن جزءاً من أرباحه يعاد توزيعه على مؤسسات ونشاطات اجتماعية ورياضية تعود بالنفع على المجتمع، إضافة إلى فرص خلق مليونير، كل أسبوع، حتى لم يعد بمقدورنا حصرهم بعد ربع قرن.

وفعلياً، وواقعياً، صرنا نسمع ونشاهد على شاشات التلفزيون، ونقرأ في الصحف، أخباراً عن أناس فقراء، وقد صاروا، بين عشية وضحاها، من أصحاب الملايين. الأمر الذي فتح الباب على مصراعيه أمام الغيرة، وانتشارها، وأيضاً، زيادة أرباح الشركة المسؤولة عن إدارة اليانصيب، بسبب تزايد رغبة الناس في الربح، والتحوّل إلى مليونيرات، بأرخص السبل.

المشكلة أن التزاحم على اليانصيب والربح المأمول حوّل الكثيرين منهم إلى مدمنين، هذا اولاً. أما ثانياً، فإن معظم الذين واتاهم الحظ، وفازوا بالملايين من الجنيهات، أضاعوها في وجوه عديدة، في وقت قصير، وبعد إنفاقها، وجدوا أنفسهم في أوضاع اجتماعية ومالية أكثر عسراً، ويعانون من أمراض نفسانية لا حصر لها، ولا شفاء منها.

الأمر الآخر، هو أن تزايد أعداد الراغبين في المشاركة في شراء ولعب اليانصيب، دفع الشركة المسؤولة إلى ابتداع أنواع جديدة من اليانصيب، متوفرة أمام المشترين، في كل وقت، وبالتالي، زيادة نسب أرباحها بأكثر من الضعف، وكذلك تزايد أعداد المدمنين على لعب اليانصيب.

ما لفت انتباهي، حقاً، وأثار استغرابي الشخصي، هو إقبال كبار السن، من الجنسين، من المتقاعدين على شراء التذاكر، ولعب اليانصيب، على أمل الفوز بالملايين من الجنيهات الموعودة. أحياناً، حين أكون في سوبر ماركت، واقفا في طابور لدفع أثمان ما اقتنيت من سلع، يسرق انتباهي أشخاص كبار السن، على بعد مسافة صغيرة جداً من الحياة الأخرى، وهم يقفون في طابور طويل، بصبر وعزم وترقب، أمام آلة بيع تذاكر اليانصيب بغرض شراء تذاكر عديدة، ثم ينصرفون تاركين وراءهم أسئلة محيرة تنبش في صدري وتجعلني غير مصدق ما تراه عيناي!.