Atwasat

ومضات متقاطعة: 10- و كانت بنغازي بيتا واحدا

محمد عقيلة العمامي الإثنين 25 نوفمبر 2019, 12:52 مساء
محمد عقيلة العمامي

كان (حوش المقيرحي) من تلك البيوت التي يسكنها عدد من العائلات، وكان مُلاصقا لبيتنا، بل، في الواقع، أن بيتنا كان جزءا منه، وعرفت أن جدي ( محمد دقيق) اشتراه منه أيام الحرب، وظل المقيرحي إلى أن رحل عنا يمقت جدي وجدتي، ولكن لم يتعدَّ هذا المقت حدود المشاعر. صديقي (المصدي) كان يسكن مع والديه في غرفة من غرف ذلك البيت.

ذات صباح، طرق (المصدي) بابنا، فتحتُ له. ذهب منزعجا، نحو أمي؛ أخبرها أنه حاول إيقاظ أمه ولكنها لم تستجب. قال: "عندما التصقت بها تحت الغطاء كانت (مصقعه بكل).. ولم تتحرك.." وفيما كان يحدثها سكبت له شاهي واقتطعت له "كسرة خبز" ونهضت مسرعة. التفت بجردها وانطلقت نحو "حوش" المقيرحي ومنه خرجت مسرعة نحو منزل سي منصورالفيتوري ونحن من ورائها. تحدثت مع الحاجة حليمة جدة مصطفى وسليمان وفيصل، فلم يكن عبدو(زين العابدين) ولا منصور ولا عبد الله، ولدوا بعد. نهضت الحاجة حليمة نحو سي منصور. خرج مسرعا، ولا أدري بمن اتصل، فلقد باشرنا لعب يومنا، ولم يهتم بنا أحد سوى (هنية) المتبسمة الودودة، التي كانت ترعانا طوال الوقت. لم نعِ تماما مغبة ما حدث ولا للاهتمام الذي أبداه الكبار. ظل المصدي ينطلق نحو بيتهم ولا يطول بقاؤه و يعود إلينا. كانت والدته قد توفيت، ولذلك استمر مجيء نساء الشارع إلى منزل سي منصور الفيتوري من بعد أن أحضروا المرحومة إليه. ولا أدري كيف جاء والد المصدي بعربته، التي كنا نسميها (كروسة) ويجرها حمار، وهي تختلف عن (الكارو) الذي يجره حصان، والكروسة بعجلتين؛ والكارو بأربعة. ربط الحمار في مساحة كانت تقع ما بين منزل سيدي عبد الواحد صنع الله، ومنزل فتحي ومحجوب بوكر. جلس والد المصدي بجانب سي منصور الفيتوري، والناس تصافحهما، ثم يجلسون على الكراسي، التي أحضرها سي عبد الواحد من مقهاه الكائن في مدخل شارعنا.

لقد تولى سي منصور الإجراءات كافة، بما في ذلك توزيع "الخبزة البيضاء" المغمورة بزيت الزيتون، التي توزع على الأطفال من بعد خروج الجثمان نحو مثواه الأخير! كانت تلك، في ذلك الوقت، هي صدقة الميت! أخذنا نصيبنا وانطلقتُ، أنا والمصدي، نحو أمي التي وضعت فوق الزيت المسكوب في منتصف الرغيف ملعقة من السكر، فتناولناها بنهم ومتعة حقيقية!
لم يمر وقت طويل على تلك الحادثة، حتى تكرر الأمر نفسه، فلقد وجد المصدي والده قد أسلم الروح وهو نائم فوق (الكروسة) بجوار الباب الخلفي لسينما النهضة. هاتان فاجعتان حدثتا مبكرا لأول أصدقائي، ولكنهما لم تغيرا من نفسيته السمحة، بل ازداد مروءة وإنسانية، واستمرت ابتسامته التي لم تفارقه، حتى في أحلك الظروف.

أخذه سي منصور إلى بيته، وعاش معهم، وعندما بلغ الحلم أخذته (خالتي) غزالة والدة كل من فتحي ومحجوب بوكر، وعاش معهما كما لو كان أخاهم الصغير. صرت أنا وهو هلاليين متعصبين بسبب سي فتحي وسي محجوب، أحد مؤسسي نادي الهلال، ولكننا مختلفان في تذوق طرب ذلك الزمن. كنا صبية ترعرعنا معا، ولا أذكر أبدا أن تشاجرنا بأي شكل من الأشكال.

لا أستطيع على وجهة الدقة، أن أحدد الوقت الذي أصبحت فيه أقضي وقتا في قهوة سي عقيلة أكثر مما أقضيه في شارع محمد موسى، ومع ذلك كنا كثيرا ما نلتقي.
من شارع محمد موسى كان لنا رفاق، لعل فتحي بسيكري وعلى الفيتوري، وخليفة الفلاح، وحسن بوخيط، وفتحي صنع الله، وأحمد بوجازيه، وبوبكر، عباس وعبدالله وفضل الله العبار، ومصطفى ورمضان قرقوم وسليمان المير واليوناني (لفتيري) الذي رفض مغادرة بنغازي من بعد أن أبعدتهم ثورة سبتمبر، وتوفي ودفن فيها. كان هناك الكثير من اليونانيين والمالطيين يقطنون الشارع أذكر منهم (ليو كيريداكس) الذي لم تغب تعليقاته على (الفيسبوك) حتى أن المرء يحس أنه مازال مرتبطا بمسقط رأسه، أيضا الأخوين (فاسيلي ومايكيلي) أبناء صانع القوارب، شقيق المصورة (انجلينا ليفادراس).

الأكيد أن علاقتي بصديقي (المصدي) تواصلت، حتى بعدما عملت في نظارة الأشغال مساعد قارئ عدادات في مصلحة المنافع العامة، ففي مطلع الستينيات، بعد تصدير أول شحنة نفط، ضاعفت الحكومة الليبية المرتبات، وأصبح مرتبي ستة عشر جنيها ليبيا، واتفقنا نحن رفاق المصلحة، أخي وصديقي الروحي إبراهيم الربع، وعمر عبدالله بن حميد أن نُفصل بِدلا عند التارزي (الزواوي) في سوق الظلام، فلقد كان يقوم بهذا العمل بالتقسيط المريح، ولما ارتديت أول بدلة في حياتي، أصر المصدي على أن تلتقط صورة لنا، ما زلت محتفظا بها. أخذتنا مناحي الحياة وتباعدت لقاءاتنا. والتقيته في مأتم رفيقنا مصطفى امحمد الفيتوري، الذي عاش معه كما لو انه أخوه، ورأيت كم كان متأثرا، ولما أبلّ من حزنة، عرفت أنه أب فاضل لأبناء خيرين.

انتقلنا من شارع محمد موسى في منتصف الستينيات، فلقد تحققت مضاعة المرتب الثانية وأصبح المرتب 36 جنيها ليبيا، وهي التي كانت سببا رئيسيا في الطفرة الأولى التي مر بها مجتمعنا، وخلقت هزة خطيرة، فالطفرات في عمر الشعوب لها مزايا، ولكن لها عيوبها الكثيرة، لقد كانت لها تداعيات غيرت من بساطة مجتمع طفولتنا، بل وغيرت الكثير من القناعات، وفتحت أبوابا ما كنا نصلها لولا هذه الطفرة، وهذا هو ما سنتناوله، ونلقي ضوءا حقيقيا على مجتمعنا بعد طفرته الأولى، وهي التي وصلت خلالها إلى خزينة ليبيا، أول عوائد النفط. سنتناول في الحلقة التالية، بعض من الحكايات ونتأملها معا، ونرى ماذا حدث بعد طفرة ليبيا الأولى؟