Atwasat

العربدة: يوسف وأبوه وإخوته...!

عبدالواحد حركات الأربعاء 20 نوفمبر 2019, 04:01 مساء
عبدالواحد حركات

يوسف القرمانلي العربيد المتليب، الذي أضحى ليبياً بحكم التقادم لا غير، بعد أن ورث ذلك عن جده الانكشاري التركي أحمد القرمانلي المنحدر من نسل كريم الدين قرمان ابن حطاب سيڤاس الأذربيجاني نوري صوفي، نوري الذي فر مع عائلته وبعض الأفراد من قبيلته أفشار التركمانية، التي كانت تستوطن تركمانستان الغربية، وانتقلت غربًا إلى الأناضول عام 1228ميلادي هربًا من المغول، وقد اعتنق ذاك الحطاب الإسلام في القرن الثالث عشر الميلادي، وصار أبناؤه وأحفاده حكاما وباشوات في مدينة قرمان ببلاد الأناضول وساروا في ركاب العثمانيين، إذ تزوج جدهم مصطفى القرمانلي الانكشاري القادم من جنوب قونية ضمن قوات سنان باشا العثمانية إلى طرابلس سنة 1551ميلادي، بعدما طاب له المقام بالمنشية بفتاة طرابلسية وكانت سبب تليب ذريته من بعده. وقد انجب من الليبية كسواه من الانكشاريين، ودارت الأيام وأهدت دون أن تدري لأحفاد الانكشاري فرصة تجديد سيرة الحكم التي فقدوها، حيث انشق أحدهم على باشا طرابلس "محمود أبو مويس" سنة 1711ميلادي، وحاصره لينتزع منه الإمارة في ثلة من مناصریه وأنسبائه من سكان المنشیة، فشنق "أبو مویس" نفسه وترك طرابلس للقرمانلي، لينعم بها ويجلس على جثة واليها وثلاثمائة من زملائه من الضباط العثمانيين حاكماً لها، ثم يورثها من بعده لأحفاده الذين جعلوها ساحة للعربدة مدة قرن وربع من الزمان.

عربدة يوسف كارثة تمشي على قدميها منذ ميلاده سنة ألف وسبعمائة وستة وستين للميلاد حتى اليوم، توارثها كثر واكتسبها كثر وعشقها كثر أيضاً، انتقلت وتناسخت وتلونت حسب موقفها وزمانها كحرباء محترفة، ووضعت عددا لا يحصى من الإكسسوارات والأصباغ لتجذب وتغري فرائسها، فتواجدت بألف منطق ويزيد، ولم تهن أو تتبدل أو تتراجع مطلقاً..!

العربيد يوسف والسنوات الاثنان والسبعون التي عاشها، وسنوات باشويته السبع والثلاثون جعلت من العربدة أيقونة تناقلتها الأيدي أوتوماتيكيا وبلا وعي وحولتها إلى المتوقع المقبول والمنتظر والمباح لدى العوام، أيقونة تحوي روح الحكم وتغلف الحاكمين وتتسلط على الجميع وتحتكرهم فكراً وعملاً، ولها مبررات وتأويلات كثيرة وعسيرة على الفهم، ورغم دوران الأرض والعقول والحكام والكراسي إلا أن العربدة لا تكاد تختفي حتى تعود، كثعبان جشع ما إن يختفي ذيله حتى يبرز رأسه من جديد، ويعلن عودة الخوف وطقوس الحذر وصواب ورفعة الحاكمين وضلال ودونية المحكومين، حتى بات الحكام اليوسفيون رموزاً تُشتهى لمن أدمنوا اضطهاد وجودهم وتصغير أناهم لصالح المعربدين بأزمانهم..!

دائماً يتزين العربيد بدماء أهله وذويه والرعية، وقد افتتح يوسف عربدته التي ولدت معه بقتل أخيه ولي العهد "البيك حسن" في حضن والدتهما، وتوج العربدة بهذا الغدر القابيلي، واتبعه سريعاً بقتل "عبدالله بك" الكيخيا الكبير مستشار الوالي ونائبه، بعد ما نكل حراسه بجثة أخيه ومزقوها بطعناتهم. مشهد استثنائي حولت فيه فنون الاستعارة والرمزية وخبث يوسف المصحف إلى مسدس، والأم إلى طعم شهي لجذب الفريسة، ومسكنها إلى طابور إعدام، وموعد الصلح المسائي تحول إلى فجر تنفيذ إعدام سياسي، والأدهى قبول أهل العربيد لجريمة الغدر والقتل كأنها حدث اعتيادي، فالسراي كانت وكر المعربدين وحلبتهم..!

كان على والد العربيد أن يتحول إلي فريسة ثانية، ولكن ظهور على برغل على شواطئ طرابلس قلب المعادلة، وركض الجميع غرباً للنجاة، ودارت الأيام بعكس اتجاهها وجعلت من العربيد يوسف بطلاً ومنقذاً، وبعد دفن القرمانلي الأب امتشق يوسف عربدته واغتصب الحكم من أخيه "أحمد" جهاراً نهاراً كأي سارق عتيد، المفزع أن الأيام كانت تدور كعادتها وتبتسم ليوسف العربيد وتجمع له المريدين، ولازالت تدور وتكدس له المحبذين بوصفه أيقونة العربدة المثلى..!
كلنا منساقون عميانا ومنجرفون ومنجرون في مسارات ومسالك حفرت لغيرنا أو بأيدي غيرنا، وصارت دروباً مزدحمة بنا، طٌبعت فينا وبأنفسنا وعلى قلوبنا، وفي وهاد فكرنا شقت سبلها، وبتنا منساقين ومنجرفين ومنجرين بالسلسلة الصدئة للتفكير الجمعي البسيط الذي اعتدناه، ولا نملك أو نقوى على سواه، والبعيد "جداً جداً لمدة ثلاثة أيام" عن التحليل في المنهج والدوافع والتدقيق في الآليات والنتائج، المضرج باللايقين والعبث والنقص، والغارق في كيمياء العواطف والمثل المقعرة، والمستند على قشور تاريخ ملوث حتى النخاع بالأهواء والافتراء..!.

الأذى أن عربدة يوسف صارت جزءا من ذاكرتنا، ذاكرتنا الوراثية، وذاكرتنا النفسية، وذاكرتنا الفكرية، وذاكرتنا الإجرائية، وذاكرة الهوى والعبث والخيلاء والوهم والادعاء التي نملكها وتمتلكنا. لقد أمست أهم خيارات الحاكمين والمحكومين، وبديلا مفترضا ومجربا للمدنية..!