Atwasat

«تحية طيبة.. وبعد»

جمعة بوكليب الأربعاء 20 نوفمبر 2019, 03:10 مساء
جمعة بوكليب

كان ذلك في فترة السبعينيات، على ما أذكر، وقبل أن تجرفنا الظروف بعيداً عن موطن راحتنا، وصحبة أهلنا، ورفقة أصدقائنا وأحبابنا، وقبل أن تسرق أعمارنا المحن، بل وقبل أن تتحول طرابلس من مدينة مسالمة إلى سجن كبير.

لم يكن الفصل صيفاً، لأني أتذكر أنني حينما لمحت قامته المديدة، من مسافة ليست قصيرة، في الظهرة، بجانب مدرسة البنات الابتدائية، كان مرتدياً زيه الشتائي المعروف، وفي طريقه نحو جزيرة الدوران التي تقود غربا نحو قصر الملك، وشرقا نحو سوق الظهرة. ولم أكن أعرف أي الاتجاهين سيسلك. وكنتُ سائرا في اتجاه مقابل له، باتجاه البحر، وفي طريقي إلى مكان ما، لم أعد أذكره، في وسط المدينة. لكني عرفته ما إن وقع بصري عليه، ومن بعيد. كانت تلك المرة الأولى، والأخيرة، التي أرى فيها الكاتب المرحوم الصادق النيهوم، بلحمه، وشحمه، وسيجارته، وتسريحة شعره المعروفة، وسرواله الجينز.

تحاذينا أمام سور المدرسة الخارجي، وسار كلانا في طريقه. لكني لم أستطع منع عينيَّ، لدى تجاورنا في الطريق متعاكسين، من أن تلقيا نظرة خاطفة على ملامح وجه كاتب موهوب، أمتعني بكتابته، وأدهشني بأسلوبه، وأضحكني وأبكاني في وقت واحد، وهو يقص عليَّ حكاية الصبي "البنغازينو" الفقير، في مرحلة ما بعد الحرب العالمية الثانية، الذي يذهب إلى المدرسة، ويقرأ في كتاب المطالعة المصري، قصة الطفل أحمد الذي كان يحرص على تناول كوب من اللبن الدافيء قبل ذهابه إلى فراشه للنوم!

بعد وفاته، بفترة زمنية ليست قصيرة، كنت في لندن، وعلى موعد مع الكاتب المرحوم أحمد إبراهيم الفقيه، ولدى وصولي إلى مكان اللقاء، في مقهى بمنطقة بيز ووتر وجدت في صحبته شخصا آخر لا أعرفه. سلمت عليهما، وعرفنا الفقيه ببعضنا، وتبين أنه الناشر المعروف المرحوم رياض نجيب الريس. وخلال تبادل الأحاديث، سألني المرحوم الريس إن كنت أعرف عنوان زوجة المرحوم النيهوم، لأنه يود تسليمها مبالغ مالية تستحقها كحقوق من بيع كتب المرحوم الصادق. فاعتذرت.

العلاقة بين المرحومين الصادق النيهوم، والناشر الريس، على ما أعتقد، بدأت في مجلة الناقد الأدبية التي كانت تصدر من مكتب الشركة التي يملكها الريس في منطقة نايتس بريدج بلندن، ثم بعد ذلك، ولظروف لا أعرفها، انتقلت من ذلك العنوان إلى مكان آخر لا أتذكره.

في مجلة الناقد، بدأ المرحوم الصادق في نشر مقالاته المعروفة ذات الصلة بالإسلام، وغيرها. والحقيقة هي أنني رغم متابعتي لها، لم تكن تثيرني، أو تستقطب اهتمامي، ولم تكن تجد لها صدى في نفسي.

وبالنسبة لي شخصياً، فإن الصادق النيهوم اثنان. واحد أحبه، وأقرأه بمتعة وشغف، وهو الصادق الأول، كما أحب أن أسميه، وأعني ذلك الذي أطل علينا بكتاباته عن شوارع بنغازي، وحكاياته عن الحاج الزروق، وزوجته، وأيقظ في عقلي وقلبي أسئلة جديدة، وبأسلوب لم أتعوده، جذبني نحوه بقوة، وهزني، فبدأت في التعرف على نفسي، وعلى الناس من حولي، وعلى الثقافة التي كانت تقدم لي، مغلفة بالأحجبة، والتعاويذ، وما كان بداخلها من عطن، كفاكهة مصابة بالعطب. ولم يكن سهلا تناول ما يقدمه لنا الصادق عن أنفسنا من جرعات دوائية شديدة المرارة، لكنها كانت مغلفة بالسكر، ليسهل علينا نحن الليبيين بلعها، بغرض أن نفيق، ونبرأ مما يعشعش في أدمغتنا من جهل وأوهام.

الصادق الآخر الذي عرفته بعد عام 1969 وما بعد، شخص آخر، لا يقل أهمية عن الأول، لكنه مختلف، لا أفهمه، ولا أعرف كيف أجد طريقا إليه، ولم تعد كتاباته تجعل نبضات قلبي تتقافز في صدري كجرو صغير. كان الصادق، في مرحلته الثانية، قد توقف عن شغف متابعته وحكاياته عنا، في واقعنا اليومي المتخلف، وصارمشغولا بهم تفكيك عالم قديم، وإعادة تركيبه، حسب رؤيته للحياة، وللدين، وللعالم، من جديد. ولم أكن، أنا شخصيا، مهموما بذلك، وليس لدي من الوقت ما يكفي حتى لإعادة تفكيك عالمي الصغير وإعادة تركيبه من جديد، ليس وفقا لهواي، ولكن وفقا للظروف التي كانت تكبل خطواتي، وتفرض عليها إيقاع سير مشروط، في مدينة مفتوحة على العالم، وكان عليّ أن أجد طريقا لي في دروبها العديدة، يمكنني من إعادة الإمساك بخيوطي، وتحديد وجهات سيري المستقبلي.

هناك العديد من المحطات التي تستدعي التوقف عندها لدى الحديث، أو الكتابة، عن المرحوم الصادق النيهوم، وليس بمقدوري التعرض لها، لتوفر من هم أقدر مني على ذلك، سواء من خلال العلاقة الشخصية بالمرحوم، أو التمكن والقدرات الأكاديمية. لكني أرى أن المرحوم الصادق كان عملة فريدة، وبنقش مختلف ومتميز، وبموهبة لا تعرف التوقف عن الإبداع، وطرح الأسئلة، والخوض في المحظور، من دون خوف، وبجرأة يحسده عليها الكثيرون، وباقتدار وجمال في الشكل وعمق في الممضمون.