Atwasat

البجعة السوداء تحط على رؤوس الزعماء

سالم العوكلي الثلاثاء 19 نوفمبر 2019, 12:31 مساء
سالم العوكلي

كان مجموعة من الناس يعيشون على جزيرة وكان البجع على تلك الجزيرة لونه أبيض. الناس ومن خلال مشاهدتهم طول مئات السنين تكوّن لديهم اعتقاد بأن كل البجع في العالم لونه أبيض،

في أحد الأيام سافر بعض سكان هذه الجزيرة إلى جزيرة أخرى ووجدوا فيها بجعا أسود، وتلك كانت مفاجأة كبيرة لهم حطمت فكرة أن كل البجع أبيض، تلك الفكرة التي آمنوا بها طوال تلك السنين.

من هذا المنطلق كان كتاب "البجعة السوداء ـ تداعيات الأحداث غير المتوقعة" لمؤلفه: نسيم طالب، ترجمة: حليم نسيب نصر.

يطرح الكتاب بلغة شائقة مسألة التوقعات المستقبلية التي تنطلق من قراءة التفاصيل الصغيرة المتتابعة، أو من سرد الوقائع الموضوعي، وتنسى المصادفة والأحداث الزلزالية النادرة وغير الواردة في منهج الدراسات المستقبلية الورعة، أو كما يقول نسيم طالب، في أحد عناوينه الشعرية "التاريخ لا يزحف زحفا بل يتقدم في قفزات" ويبدو أن ما يحدث في المنطقة الآن من سقوط متتابع لأنظمة عتيدة يشكل إحدى قفزات التاريخ التي لم يتناغم معها تفاؤل العقل السياسي الساذج الذي تربي في فضاء القراءة الورعة للتاريخ وللمحتوم .

تشكل ظاهرة الربيع العربي في مجملها هذه الحالة، وهي ظاهرة لم تتوقعها الحدوس العلمية ولا مراكز البحث الدولية المختصة بالمنطقة التي تنطلق دراساتها من التسليم بحقيقة ما آلت إليه تلك الأقطار من تكيف مع السلطات المستبدة، فكان أول من ظهرت البجعة السوداء في بحيرته الراكدة الرئيس البوليسي زين العابدين، وكان ارتباكه وراء تلك اللعثمة في خطاباته التي أقر فيها أنه فهم شعبه لأول مرة، وفي سماء المنطقة حلقت هذه البجعة لتحط كل مرة في مكان كاسرة يقين كل البجع أبيض ويقين أن الشعوب استسلمت لحكامها بعد عقود من تمارين الطاعة، من مصر إلى ليبيا إلى اليمن إلى سوريا إلى السودان إلى الجزائر إلى العراق إلى لبنان ومازال في جعبة البجعة كثير من المحطات في شرفات القصور العربية وغير العربية.

وباعتبار مؤلف الكتاب متحدر من الجنوب اللبناني وألهمته الحرب الأهلية فكرة هذا الكتاب، فإن ما يحدث من ارتباك لزعماء الطبقة السياسية، الآن، في لبنان، يرجع لهذه الظاهرة التي زعزعت يقينهم التاريخي بأن لبنان أصبحت محمية لشعب هم رعاته للأبد، وكل ما يفعله زعماء الديمقراطية الوراثية هو التشكيك في ظهور هذه الحالة الاستثنائية التي تجاوزت لأول مرة طوائفهم وسحرهم الأسود وطقوس تنويمهم المغناطيسي للبنانيين بتقية : ليس في الإمكان أبدع مما كان.

في فصل "تدرج تجريبي مُشكك" يتحدث المؤلف عن ألف سنة من تاريخ لبنان احتضن فيه ساحله الصغير ما لا يقل عن اثنتي عشرة طائفة دينية "لكن الجنة اللبنانية سرعان ما تبخرت بعد رشقات قليلة من الرصاص وقذائف من الهاون" وكان الكاتب المداوم على زيارة موطنه الأصلي، عاكفا في قبو يحميه من القذائف العشوائية، على أسئلته المقلقة بشأن المصير والحتمية ومحاولات عقلنة التاريخ التعيسة "كيف يمكن لأحد أن يتكهن بأن هذا الشعب الذي بدا مثالا يُحتذى في التسامح سينقلب إلى شعب من أقسى الشعوب بربرية بين ليلة وضحاها"
وهو السؤال نفسه تقريبا الذي يقلبه معظم الليبيين في عتمة لياليهم الهاربة منها الكهرباء، وتحت صوت القذائف العشوائية.

البعض الموضوعي المؤمن بان كل البجع أبيض، يحيل هذه القفزة في التاريخ إلى تفاصيل منطقية تعود به إلى حتمية اللحاق بثورتين قامتا على الحدود، ولكن من كان يتوقع، حتى من باب الخيال الجامح، أن تبدأ ملحمة إسقاط الأنظمة العتيدة في تونس المحكومة بقبضة بوليسية تحسب أنفاس المواطنين، وتجعل الهمس في السياسة في ركن مقهى أو بار معتم ممنوعا؟.

نسيم طالب مؤلف الكتاب، وهو من عائلة ثرية في جنوب لبنان، اعتقد لوقت أن هذه الجنة التي يمرح فيها خالدة، ليجد نفسه فجأة في قلب حرب تفقده كل شيء في هذا البلد الرومانسي الصغير الذي كان يتبختر كطفل في أغاني الفلكلور اللبناني، أو كراعية تسير خلف قطيعها في الأحراش وهي تجمع الزهور، سيتحدث عن اضطراره للقراءة القسرية في ذلك القبو حيث المكان مطبق والزمن بلا حدود، محاولا العثور على إجابة سؤاله السالف، ويغوص في قراءة أعمال هيغل، وماركس، وتوينبي، وآرون، وفيخته، حول الفلسفة والتاريخ، ليقول "وقد خُيل إلى أنني قد امتلكت فكرة غامضة حول مفاهيم الديالكتيك"، محاولا الوصول إلى فهم نوايا التاريخ، أو "طريقة عمل تلك الآلة الضخمة التي تتولد عنها الأحداث" لكن ويا للمفارقة، لن تسعفه كل تلك القراءات العميقة، وسيجد ضالته في كتاب "أخذ منه كل مأخذ" لم يكتبه مفكر، ولكن مشتغل في حقل الصحافة، بعنوان: "يوميات برلين يوميات مراسل صحفي أجنبي، بين 1934 ـ 1941" لوليام شيرر.

"ليست المعرفة وحدها، بل المعلومات أيضاً، هي التي تحمل قيمة دقيقة" يفسر طالب مبدأ هوسه بدفتر اليوميات. وهذه الفكرة نفسها هي التي تجعل المعلومة ضحية ثورة المعلومات نفسها التي لا تعطي معلومة دقيقة، لتحل التفسيرات والتحليلات بدل الوقائع، وليتوه الجميع في صخب إخباري لا يخبرنا بشيء تقريبا.

يتحدث المؤلف عن جده الذي كان وزيرا للدفاع، ثم للداخلية، ثم نائبا لرئيس مجلس الوزراء في بداية الحرب الأهلية "وبالرغم من مركزه الكبير فإنه لم يبدُ عليه أنه كان يملك أي علم بما سيحدث في البلاد أكثر مما كان يعرفه سائقه ميخائيل".

ولأن المعلومات هي المهمة كان المشوشون على ظهور البجعة السوداء في ميادين لبنان يتلاعبون بالمعلومة ويحاولون إقناع الرأي العام وأنفسهم المذعورة أن هذا السواد الاستثنائي ما هو إلا نتيجة مرور البجعة ببئر نفطي خليجي أو انعكاس لعمامة شيخ إيراني، أو طلاء مؤقت تصرف عليه السفارات الأجنبية والمخابرات القريبة والبعيدة. ومرارا يخطب نصر الله محاولا التشكيك في هذه الثورة، مكررا عبارته "نملك معلومات دقيقة" متحسسا عمامته السوداء التي أصبح يراها بجعة كلما مَثُل أمام المرآة.