Atwasat

القوى الناعمة مواجهة!

أحمد الفيتوري الثلاثاء 19 نوفمبر 2019, 12:17 مساء
أحمد الفيتوري

(بعد رحيل "المختار" بأكثر من ثمانية عقود، لم يبق لنا سواه يجمعنا. لكنه وحده يكفي، ففيه اختزل الولاء للأرض، بكأسه المترعة بقيم الفداء والإيثار، ومنه عرفنا أن العوز وقلة الحيلة وصلف الغزاة، مقدور عليها حين تقوى الإرادة، وحين يكون المراد وطنا.)
نجيب الحصادي

لعبة الحياة
تنثال أخبار، أن طفلا يعزف على الكمان، وقف أمام مسرح الطفل ببنغازي، حين الحرب صبحها ومساءها، وأن الطفل، في وقفة الداعي المارة، لحضور حفل فني للأطفال، يقام حينها بذاك المسرح... وهكذا خبر آخر، وخبر في نسج على المنوال، مثل ذا ما استوقفني كثيرا، متأملا قولة الفيلسوف الإيطالي غرامشي، حول تفاؤل الإرادة، وتشاؤم العقل، ما ردننا بوعي ذهني مجرد، وقفة الطفل ما جسد الوعي بالمقولة، من حيث أن تشاؤم العقل، يكون تشاؤما عقليا، متى ما اقترن بتفاؤل الإرادة، غير ذلكم عبث ولا عقلانية.

القوى الناعمة العاملة من أجل السلام، لا تحمل سلاحا، وكما رأينا، تحمل كمانا في يد طفل، وأنها في حالة مواجهة حين الحرب، وأنها في شغل النحلة حال السلام، ما لا يكون قارا إلا بالشغل الدؤوب، إذا القوى الناعمة صاحبة السلام وقت الحرب، ذاتها القوى الناعمة حين يحين السلام، لا تكل ولا تمل من أجل مرادها.

الفنان، حيث كل شغل إنساني فيه فن، ينحت الصخر، يعصر الرمل، ليستجلب المطر، فالحياة دائما قاصرة، أن تكون دون حس الفنان، ما هو في عرف الناس كافة، المحب الشغوف بما يعمل، شغف النحل بالزهر، السلام ما لا تكون دونه حياة.
هذه البديهيات لابد من تكرارها، كما فِعلُ الشهيق المستحلب الأكسجين، وحتى دون تفكر في فعل ذلك، وفي هذا تحضر عندي قولة الفيلسوف الألماني شيلر: الإنسان لا يكون إنسانا إلا حين يلعب، ولا يلعب إلا حين يكون إنسانا، كما الطفل، في وقفته قدام مسرح الأطفال، ساعة ذاك، يلعب بالكمان، أن هلموا إلى الحياة.

موت الكُوميدي
فاجأتني وقفة الليبيين، ساعة موت الفنان (صالح الأبيض)، كما لم يفاجئني موته، (فإنك ميت وإنهم ميتون) القول الحق، كأنما الليبيون كانوا يحتفون جماعة، حفل توديع الراحل، حفل استحضار للكوميديا، للضحكات التي سُعدوا بها. كان موت الفنان تذكيرا بالحياة، لذا أجمع الناس ساعتها، على أن يرفعوا مناديل الوداع، الدال على أن ما فعل "الأبيض"، في حياتهم أمانة، سيحرصون عليها، حرصهم على حياتهم كأفراد وجماعة، صالح كان الكوميدي، من صالح الليبيين مع أنفسهم ساعة، ساعة رحيله، كانت القوى الناعمة في مواجهة، متمثلة فيما فعل، الضحك كان رسالته، ما أيقظتهم من غيهم، ومما هم فيه يعمهون.

لم يُلقِ درسا، ولا دعوة لتفاؤل، لكنه الرحيل، الموت، ما فَطَّن الليبيين إلى الكوميدي، نافي التراجيديا الساحقة التي فيها يعيشون، ومن المفارقة ذي، كانت اللحظة الاستثنائية، التي عاشها الليبيون، من في عاداتهم ينغمسون في العويل، المفارقة موت الضاحك الضحوك المُضحك، أيقظ النفوس وأشعل فيهم يقظة: أن الفنان الذي يؤبنون فنانهم الكوميدي، ما جمعهم ساعة الضحك، لقد بدا وكأن الليبيين، ليس ما يظنون بأنفسهم، فأيقونتهم الراحل فنان كوميديا، ما سخرهم للسخرية مما هم فيه.

ذكرى الكاتب الساخر
لافت للنظر أن يقف الليبيون خاصة، بعد خمسة وعشرين حولا، ليتذكروا كاتبا: (الصادق النيهوم 1937- 15 نوفمبر1994م)، من تذكره أيضا غيرهم من العرب، الصادق النيهوم من كثيرا ما أعجب الليبيين فيه، بسخريته من حياتهم، كتاباته الساخرة، يرسمها كاريكاتوري، كما الفنان الراحل (محمد الزواوي).

برغسون الفيلسوف الفرنسي، صاحب الكتاب الشهير (الضحك)، يرى أن الإنسان (الحيوان الضاحك)، وأن الضحك فعل جماعة، فالمرء عادة لا يضحك وحيدا، وأن السخرية من الصعاب يلينها، كما يبدد الضحك الكدر.

الليبيون من مفارقات هذا الحول: 2019م، أجمعوا على تذكر الصادق النيهوم، ودخلوا في جدال حوله، اختلفوا حول آرائه وتأويل أطروحاته، لكنهم أجمعوا على أنه كاتبهم، وأينما كان الليبيون في الخارج والداخل، احتفلوا بهذه الذكرى، بالكتابة والحوار، ومنهم نفر التقوا في بيوتهم بالمناسبة للمحاورة والتذكر، ورددوا من أقواله ما يخصهم كما حكم: ولن يخدعك السراب، إلا إذا كانت قلتك... خالية من الماء، وكالقول هذا نسجوا على منواله ونسبوه إليه، كما فعلوا مع ما استعاروه من غيره.

كأنما الليبيون فطنوا بغتة، فبأسلوب (النيهومية) طفقوا يسخرون من حياتهم، وفي وطيس الحوار حوله غطسوا، ورغم أنهم لم يبذلوا جهدا مكثفا، في دراسة وبحث منتجه، لكنهم أجمعوا على (الظاهرة النيهومية)، كما كتب الراحل على فهمي خشيم، في مقالة نشرها منذ أربعين سنة أو أكثر، ولقد استطاع، الصادق النيهوم حيا وميتا، أن يجمع الناس، حول طاولة الحوار، حول فكره، الملتبس عند البعض، والتنويري عند غيرهم.

بذا وبكثير غيره لم نذكره، القوى الناعمة المواجهة، في الواجهة.