Atwasat

نبضات متقاطعة (9): «المصدي» صديق من ذهب

محمد عقيلة العمامي الإثنين 18 نوفمبر 2019, 12:02 مساء
محمد عقيلة العمامي

... ولعلني أستطيع أن أصف لك، يا مصطفى يا صديقي، أقدم ما استطعت استرجاعه من طفولتي، عن أول صديق عرفته في حياتي، وعن أطفال شارع محمد موسى الذين تفتقت مع اللهو معهم بذرة الصداقة.

لقد أخبرتك من قبل، أنني تلصصت من عند ركبة جدتي زمزم، من باب منزلنا الموارب، بشارع محمد موسى، عندما وصل رجال غاضبون، يهتفون: "يا ساقزلي (أمغير) الليلة.." ثم التفتوا نحو مدخل الشارع وشرعوا يقذفون البوليس بالطوب، بعدما نزلوا متوعدين بهراواتهم من سيارات (الصاصلي) البوليسية، متجهين نحوهم" وقلت لك أن ذلك كان مثلما عرفت فيما بعد كان سنة 1952.

أما المرة الثانية، فكانت عندما كان السّقّاءُ، الذي كنا نسيمه (الوراد)، يسكب الماء في زئرنا بسقيفة بيتنا. من أمام بيتنا نظرت يمينا نحو (ذيل الزنقة) ثم يسارا نحو (رأسها) وفي الجهة المقابلة، حيث منجرة، عرفت فيما بعد أنها ( منجرة سي عزالدين المدني، والد أسعد وفتح الله وعبدالسلام وكمال)، وهي التي عملت فيها صبيا بعدما اشتراها سي عبد الله خماخم. أمامها رأيت يقف طفلا في مثل عمري، يرتدي قميصا وسروالا؛ كانا ذات يوم أبيضين. التقت عينانا فتبسم لي، تقدم نحوي ثم سألني: "هضا حوشكم" أومأت برأسي بالإيجاب: "ولِمَ لا تخرج تلعب معنا؟" هززت كتفي فلم أعرف بماذا أجيبه. استطرد: "سوف يخرج مصطفى وأخوه سليمان، وسوف نلعب جميعا.. سوف يحضران لي خبزة!" انتبهت أن بيدي كسرة خبز فمددتها له، أجابني: "لا.. خبزتهم بيضاء، هذه مثل خبزتنا..". هممت أن أقول له أن والدي يحضرها لنا أحيانا، ولكن والدتي ندهت علىّ، فعدت إليها. كان الوراد قد اتجه نحو البيت المجاور. دخلتُ وحكيت لأمي عما حدث، قالت إنه ابن جارتنا، وأن اسمه محمد مثل اسمك.

قد تكون هذه التفاصيل تداعيات استرجعتها بضبابية، ولكنها حدثت على هذا النحو. لا أستطيع أن أتذكر تفاصيل ماذا حدث بعد ذلك؟ ولكن منذ تلك الفترة، صرنا نلعب معا، أمام بيوتنا، وغالبا في فسحة خارجية بها عربة وحصان، موثق في زاوية من تلك المساحة الواسعة، تلك الفسحة أوسع بكثير من بيتنا، ولقد وصفتها بدقة، في روايتي "ليلة عرس الجمل" فقد وظفتها على نحو لخدمة فكرة من أفكار تلك الرواية. إنه منزل سيدي منصور الفيتوري، وهو جد الطفلين مصطفى وسليمان وأخيهما، الذي كان أصغرهم، وهو الكابتن، الذي تقاعد مؤخرا، فيصل الفيتوري. ولقد سألتني أمهم عمتى فاطمه عن اسمي فأجبتها مثلما تسميني جدتي: "محمد دقيق" عرفت فيما بعد أنه اسم جدي. ضحكت مستغربة من لقب دقيق، ولم تمض أيام حتى أطلقت عليَّ لقب: "دقاق" فالتصق بي هذا اللقب لسنوات. أما الطفل، أول أصدقائي، كان اسمه محمد، وهو الذي ألّصق به زوجها سي امحمد الفيتوري لقب "المصدي".

المصدي ظل أقرب أصدقائي، لا نكاد نفترق طوال اليوم، ومنذ أن عرفته كان دائم الابتسام، ودودا، خدوما، نقيا، طيب القلب والسريرة، لا يعرف الخبث، ولا الخبائث. كبرنا معا، لم نفترق، إلاّ في مرحلة متقدمة، وتحديدا في منتصف الستينيات، فلقد انتقلنا إلى شارع لحيول، أما قبلها فكانت حياتي موزعة ما بين رفاق قهوة سي عقيلة والشوارع المحيطة بشارع نبوس. ثم باعدت الأيام بيننا ، ولكن ما إن نلتقي حتى يغمرني بالابتسامة ذاتها وبالترحيب والود الدافق.

ظل طوال طفولتنا وصبانا الأقرب إلى والدتي، وكان يناديها: "أمي وافيه". مرت بطفولته تجارب مريرة، ولكنها لم تخنق فيه روح الإنسان، ظل متفائلا، محبا عطوفا ممتلئا مروءة ونبلا، وعشقا لأغاني فريد الأطرش وتنقلب المقارنة بينه وبين محمد الكحلاوي إلى (عركة) حقيقية، مع من يطعن في فريد أو يقلل من شأنه! وأحيانا عندما تعلو وتيرة المقارنة يجعل مع من يقارعه، من رواد سينما النهضة الفيصل بينهما، إذ يسألان الرواد أيهما الأفضل الكحلاوى أم فريد، وتسجل الأصوات ويظهر الفارق ويشرع في الغناء، أما إن فاز الكحلاوى، فتلك مشكلة قد لا تنتهي من دون عراك. ذات يوم سألنا أحد شباب شارعنا الأكثر أناقة، وهو محمد على بوخيط عمن يفضل منهما؟ أجاب متبسما كعادته: "عبد الوهاب هو الأفضل!" حينها لم نكن نعرف عبد الوهاب مطلقا، لأن أفلام سينما النهضة التي نتابعها باستمرار لأن أبوابها الخلفية في شارعنا، ونحن من يقوم بخدمة عمالها صباح اليوم التالي، عندما يكنسونها من مخلفات الليلة السابقة. كانت (والدتنا) وافية هي التي تعد لهم الشاي، والفطور الذي غالبا ما يكون (شرموله) أو شكشوكه، إن أحضروا لها بيضا!.

مر صديقي هذا بتجربة مريرة، لعل تفاصيلها تبرز بشكل واضح حال جيران، ذلك الزمن، وتآخيهم ونبلهم على الرغم من الفقر والعوز؛ كان أمرا مألوفا أن تسكن عدة عائلات، لا تعرف بعضها البعض، في بيت واحد، تكتري كل عائلة، غرفة تعيش فيها، وتتشارك مع بقية العائلات في منافعه، فلا يكاد يخلو شارع، من شوارع بنغازي، من مثل هذه المنازل الجماعية. خصوصا خلال حقبة تزامنت مع أيام الحرب واستمرت سنوات بعده، فلقد غاب فيها الغيث النافع، فجاءت هجرات متتالية من أنحاء ليبيا نحو بنغازي، التي تأسست من البداية كميناء بحري، وهو الذي استغل لتصدير الملح، والحلفاء، ثم من بعد الحرب لتصدير مخلفاته من الحديد، وكان شحنها وتفريغها مصدرا منتظما للزرق. فكانت المساكن العائلية الوافدة، وأيضا الدكاكين الصغيرة للعزاب، والتي كانت تنتشر بالقرب من المساجد لقضاء الحاجات. كانت أيام فقر كافر، فلقد ذكرت لك، يا مصطفى، من قبل أن الأمم المتحدة صنفت بلادنا سنة 1952 أفقر دولة في العالم. في الحلقة التالية سأحدثك أكثر عن (المصدي)، ولكنه صديق من ذهب.