Atwasat

عصابة داعش وشرفة في أثينا*

سالم العوكلي الثلاثاء 12 نوفمبر 2019, 03:13 مساء
سالم العوكلي

ظاهرة الخطف تفشت في الأيام الأخيرة حين سيطر متشددون دينيون على المدينة وضواحيها، البعض يخطف لأسباب تتعلق بالمهن وبالصراع بين المتشددين وأجهزة الدولة التي تخلت عن هذه المنطقة بسكانها، والبعض بسبب هويته القبلية، والبعض يخطف من أجل فدية مالية، والبعض يخطف من أجل مقايضة مع أسير من هذه الجماعات في قبضة الطرف الآخر. وهو الذي كان يعتقد أنه لا يمثل أي طرف بالمعنى الحرفي للتمثيل وأنه فقير ولا يمكن التفكير في ثمن يمكن أن يدفع من أجل إخلاء سبيله، ولم يبق له إلا احتمال واحد ساقه إلى هذا المصير، وفكّرَ: كونه كاتبا طرق بعض الأمور المسكوت عنها قد يكفي لتقرب هذه الجماعات من ربها عبر تصفيته والتي غالبا ما تكون بالذبح الذي يستعيد طقوس تقديم القرابين للآلهة على المذابح المقدسة.

تحسس رقبته.. وبحذر زحفت أصابعه المرتعشة إلى ربطة العصابة خلف رأسه، لكنه تراجع فورا خوفا من استبدال هذه العتمة المؤقتة بعتمة أبدية.

لطالما فكر: إذا ما فُصل رأس إنسان بسرعة وتدحرج بعيدا عن الجسد: هل بالإمكان أن يرى الرأس بقية الجسد بما تبقى فيه من حياة ومن دماء مازالت تسري مؤكسجة في الدماغ تجعل المركز البصري يتعامل لثوان عدة بعد حز الرأس مع ما اقتنصته من صور أخيرة وهي تتدحرج؟ هل ستبدو الصور تدور مع دوران الرأس مثلما تلتقطها كاميرا تدور في فيلم أكشن ؟ وفي النهاية هل سيرى جسده ينتفض بعيداً عنه دون رأس في آخر الثواني الأخيرة قبل أن تعم المكان عتمة أبدية؟ كان يستحضر هذه الأسئلة التي تزيده رعبا وكان يفكر في أن اللحظات التي تسبق الموت أصعب من الموت نفسه .

يحاول في هذا الوقت العصيب حشد كل معارفه وتجربته التي عاشها أو سمعها أو قرأها لتعينه على عبور هذا النفق إذا قُدِّر له أن ينجو في النهاية، فبدأ يسترجع أفكار كتاب قرأه منذ فترة قريبة. صديقه المترجم في حقل الفلسفة الذي كان يبعث له مسودات ما يترجمه كل مرة وقبل نشره بعث له كتاب (موجز تاريخ للفلسفة) لنايغل روبرتن، ومع النسخة الإلكترونية لهذا الكتاب ماسج يقول له "هذا كتاب يقرمش" وما حصل أنه قرمشه فعلا، وحين تكون الأفكار العظيمة في ورشة نجار يعرف كيف يحيل جذوع الخشب إلى أرائك مريحة تغدو الفلسفة الثقيلة كنزهة ممتعة في طريق كثيف الضفاف مشرع على أفق تترك فيه الشمس الغاربة غبارها النبيذي يتلاشى بين أصابع عتمة بطيئة.

ما يعنيه الآن فكرة "التصرف بأسلوب فلسفي" التي تطرق لها بعض الفلاسفة المطبوعين الذين مارسوا الفلسفة بفطرة وعبقرية كما يمارس بدوي عزف المزمار دون مرجعية موسيقية، ومعظمهم لم يكتب كتابا لكنه حوّل أفكاره إلى تراث شفهي تداوله التلاميذ حتى تحول إلى حبر وأصبح الآن يسافر عبر الكون في ملفات رقمية تذهب في رمشة عين .

تذكر أيضا حكايا والده الأمي الذي كان طيلة سنوات حبسه في "معتقل البريقة" يفكر بطريقة فلسفية دون أن يدري، وربما حبه للحياة وللاستمرار جعله يقاوم هذا الموت المستوطن بتكيفه وبرغباته الصغيرة وبعلاقة الحب التي أقامها في قلب الجوع والموت.

"حين يقول الناس إنهم يتصرفون بأسلوب فلسفي حيال ما يحدث لهم، فإنهم يستخدمون هذا التعبير على طريقة الرواقيين". مازال يتذكر حرفيا هذا الاقتباس الذي وضع تحته خط بقلم رصاص، قد يستعين به يوما كحجة على أن للفلسفة علاقة بالسلوك اليومي، أو قد ينشره على جدار صفحته في الفيس بوك ذات حيرة لا يريد لها أن تغادر.

ثلة من المأخوذين بالفلسفة والتأمل كانوا يلتقون يوميا في شرفة مطلية في أثينا مطلة على غابة صنوبر بري تتخللها بعض البيوت الحجرية، يحتسون نبيذا معتقا من بساتين الكروم المحيطة بأثينا القديمة كسوار، ويطرحون الأسئلة، ويقترحون الإجابات التي أصبحت فيما بعد أرضية فلسفية لمفاهيم الموت والحياة وما بينهما من قلق وأسرار. اشتهر أصحاب الرواق برؤاهم المتعلقة بالتحكم الذهني؛ وهذا ما يتمرن عليه الآن .. إذ لم يبقَ له في هذا المحتجز سوى الذهن ـ بمعنى؛ أن نتمرن على الخلاص من القلق حيال ما لا نستطيع تغييره. وفكر هل كان بالإمكان أن يغير ما فيه الآن؟ ربما قبل أن يحدث، أو لو فكر أن هذا الطقس العاصف غير صالح للخروج. لكن، بمجرد أن تجاوزته العربة السوداء ونزعه الملثمان من خلف المقود، أصبح كل شيء خارج التحكم ولا يستطيع تغييره، ولذلك عليه أن لا يقلق بشأنه، ويفكر في ما يستطيع تغييره، ولكي يرتب أفكاره وخطته تساءل: ما الذي أستطيع تغييره الآن؟ وكان السؤال صعبا وإن بدا إجابةً لتكتيكات طالما فكر فيها عندما كان يحدثه أحد المختطفين عن قصة خطفه؟ هل ثمة حنان أو نواة ضمير في أي إنسان؛ مهما كان متوحشا وقاسيا، يمكن الوصول إليها باستخدام أية مماحكة لغوية أو إشارات جسدية؟ هل بالإمكان تدبر طريقة للهروب كما فعل بعض المختطفين؟ وبعيدا عن كل هذه الأسئلة، ولكي يغُوص أكثر في الفكرة الرواقية، تمرن على الوصول إلى نوع من السلام الذي يصله محكوم بالإعدام مع الزمن والتكيف مع فكرة الموت مستعيدا بوضوح السؤال الذي طرحه أبيقور: لماذا ينبغي عليك أن تخشى الموت ، طالما أنك لن تختبره. لن يكون موتك شيئا يحدث لك. حين يحدث الموت لن تكون موجودا.

التصرف بأسلوب فلسفي. يبدو أنها وصفة بعيدة المنال، خصوصا على شخص معصوب العينين لم يقرأ الكثير من الفلسفة وكان دائما يفكر بكل حواسه، ويدرك أن للخوف حضوراً فسيولوجياً تتحكم فيه كيمياء الجسد، يؤدي إلى تدفق العديد من الهرمونات التي تحدد ردود الأفعال، وأمام هذا التوصيف المحبط لاذ بجديد بتجربة والده الذي كان في قلب المعاناة يتصرف بأسلوب فلسفي رغم أنه لم يسمع في حياته بمفردة فلسفة؟، ولاذ هذه المرة بهبة جينية تجعله يفكر بهذا الأسلوب بعيدا عن تأملات الرواقيين، التي لا يعرف ما إذا كانوا قادرين على تطبيقها أم لا.
لكنه يتذكر فجأة إحدى حكايات الكتاب المترجم التي ترجح أن ما يمكث في نفوسنا من أفكار مستلهمة قد يكون له دور مهم في دعمنا في أوقات صعبة نمر بها، ما بالك وأن هذه الحكاية تتحدث عن شخص وجد نفسه فجأة في قلب المعاناة.

يقدم أبيكتوس الذي بدأ حياته عبدا، وقد تحمل الكثير من العناء وعرف جيدا معنى الألم والجوع، نصيحة مفادها "أفكارنا وقف علينا". مات ابتيكوس عام 135 ميلادي، لكنه، بعد 1800 سنة تقريبا ألهم طيارا أمريكيا سقطت طائرته في شمال فيتنام، كان قد قرأ أفكار أبيكتوس في الجامعة، وبمجرد أن جنح بمظلته صوب منطقة العدو صمم على ألا يتأثر بما يفعله الآخرون به، مهما كانت معاملته قاسية. إذا لم يستطع أن يغيرها، فلن يدعها تؤثر فيه. وقد منحته الرواقية القدرة على مقاومة الألم والوحدة اللذين كان لهما أن يدمرا معظم الناس.

*. فصل من رواية تحت الإنجاز