Atwasat

نبضات متقاطعة (8): «عينان في رأس»

محمد عقيلة العمامي الإثنين 11 نوفمبر 2019, 12:10 مساء
محمد عقيلة العمامي

توقفت يا صديقي مصطفى، فترة عن الكتابة إليك، لأنني ظللت أتساءل ما الذي يدفعني إلى الحديث عن الماضي بهذه الرغبة الملحّة؟ بل ولماذا أكرره؟ فأنت تعلم أنني كتبت لك كثيرا عن الماضي. ولقد جاهدت أياما علني أجد تفسيرا لهذه الرغبة الجامحة، التي سيطرت عليَّ وجعلتني أتناول ذكريات ومشاهد وصورا متنوعة ومتضادة، ولكن لم يخطر ببالي أبدا أنني سأتذكر لا سي يونس ولا صديقه الحمار الذكي!

الحقيقة أن هذا التساؤل، جعلني أنتبه إلى إن جل كتاباتي، إن لم تكن كلها، كتبت في زمن الماضي، وانتبهت أيضا إلى أن مخزون معلوماتي وذاكرتي، التي أصبحت لا تسعفني قبيل الإفطار، عندما أسألها إن تناولت دواء الضغط، أو لم أفعل؟ هذه الذاكرة الواهية، كثيرا ما تنثر أمامي قصصا وطرائفَ وحكاياتٍ كاملةً، بجملها ونبرة قائلها، وأيضا ضحكته الصاخبة، وأسنانه المتميزة، بل ومن كان معنا وأيضا تفاصيل المكان، سواء أكان في مدرسة الأمير، أو في سيدي حسين، أو كوبنهاجن أو كنيسة (ليكافيتوس) المنتصبة فوق جبل وسط أثينا المزدحم على الدوام.

الحاجة (وافية) أورثتني هذا النوع من الزهايمر؛ أنسى القريب، ويتزاحم البعيد أمامي طوال اليوم. صحيح أنه مازال في بدايته يناكفني وأنا أبحث عن نظاراتي وهي على أرنبة انفي، ولكنها تهاليل واضحة لهذا الزهايمر اللعين، يؤكدها تعنت ركبتي اليسرى، ما إن أبتدئ ارتقاء السلالم نحو الشقة 63. كانت رحمها الله، في أواخر حياتها تتذكر جارتها ماريا التي دفنت في جبانة النصارى في نهاية الأربعينيات، وتتذكر أنها تصف، علاقتي بمجيد «كعينين في رأس» عندما تكون راضيه، و«رأسين في شيشه» عندما لا تكون كذلك، ولكنها تعجز عن تذكر أسماء أحفادها، بمن فيهم الذي ينام في حضنها!

أنا لم أصل هذه المرحلة ولا أعتقد أنني سأصلها، بفضل تماريني اليومية للذاكرة، وبضعة أشياء أخرى سبق وأن نبهتك إليها! ولعلك تتذكر يوم تحدثنا أكثر من مرة كيف أن «الشياب» قبل رحيلهم يتحدثون كثيرا عن الماضي، ويوم تحدثنا عن كتاب (بروني وير Bronnie Ware) تلك الممرضة الأسترالية، التي رعت المرضى الذين أوشكوا على الرحيل، خاصة أولئك الذين لم يتبق على وفاتهم سوى أسابيع، وكتبت عنهم. الكتاب لقى إقبالا هائلا، فلقد لخصت وسجلت فيه ما تمنى أولئك العجزة أن يفعلوه عندما كانوا قادرين. أن أعلم أنها لخصت ما تمنوه في خمسة نقاط. لقد عدت إليه، يا مصطفى يا خويا، ورأيت أن أذكرك بها لأنني في الواقع كنت قد نسيتها. هذه الأمنيات الخمس هي:

1 – تمنوا لو ملكوا الشجاعة ليعيشوا الحياة التي أرادوها لأنفسهم، لا تلك التي أرادها الآخرون لهم.

2 – تمنوا لو أنهم لم يرهقوا أنفسهم كثيرا في العمل.

3– تمنوا لو أنهم ملكوا الشجاعة للتعبير عن مشاعرهم.

5 – تمنوا لو سمحوا لأنفسهم أن يكونوا أكثر سعادة (دون أي ندم).

أما الرابعة فهي: تمنوا لو حافظوا على علاقاتهم بأصدقائهم. وعليك أن تصدقني أن هذه الأمنية، هي أكثر الأمنيات التي لن أتمناها عندما أصل تلك المرحلة، لأنني بالفعل حافظت على صداقتي باقتدار وبدرجة كثيرا ما يصعب علىّ تصديقها، فلقد ضحيت من أجلها بالأمنية الثالثة! ولكن لا تخشَ مغبة ما قلته، فأنت، وأيضا آخرون كثيرون لم أضحِّ بالأمنية الثالثة من أجلهم. ثم تأكد أن بقية الأماني حققتها بامتياز ولن أندم عليها!

وإليك حقيقة تاريخية لا علاقة لها؛ لا بالشياب ولا بهذياني هذا؛ إنها نظرية في التاريخ تقول: «إن الكتابة عن الماضي هي ما تساعد على معرفة الحاضر» وهذا حق، وهذا ما وددت ان أستخدامه في معرفة تفسير صداقات استمرت ما بين أصدقاء لا يعرفون كيف ابتدأت صداقتهم وكيف أنها ما زلت متواصلة، ثم وما سبب تواصلها؟

الحقيقة الماثلة أمامي تقول: «إن تواصلت، لعقود، صداقة المرء لشخص لا يتذكر متى التقاه أول مرة في حياته، تظل حميمية ومفعمة بالإخلاص..». قد تتداعى إن حدث انقطاع بينهما لسبب ما كالهجرة، أو الانتقال من الموطن والسبب في الغالب هو اتساع مدارك أحدهما بعلم أو تجربة، أو معتقد لا يتوافق عليه، أو أن تدخل بينهما (الوشواشة) ونجحوا في غايتهم!

عديدون عرفتهم في طفولتي، ولا أعرف متي أو كيف كانت المعرفة وكيف تأسست. كل ما أذكره أنني أعرفهم منذ سنوات وعيي المبكرة. مثل هذه الصداقة لا تنقطع، ولكن قد لا تكون بقوة الصداقة التي تأسست في وعي مبكر، واستمرت. قد تنقطع لفترة وجيزة ولكن فجاءة يجد المرء نفسه متجها نحوهم، وسريعا ما يلتئم شرخ البعد وتذوب أسبابه وكأنها لم تكن.

قد لا يكون صديق الطفولة، هو ذلك الذي لا تتذكر متى التقيته أول مرة، ولا ما حدث في ذلك اللقاء، وأن علاقتكما لم تنتهِ لأي سبب من الأسباب. وقد يكون قد التقيته في مرحلة مبكرة من طفولتك وتتذكر متي كان هذا اللقاء، إنه صديق الصبا وليس صديق الطفولة، وصداقته تكون أعمق من صديق الطفولة.

وكيفما يكون زمن بدء هذه الصداقة، فإن تواصلها هو المعيار الحقيقي لها، حتى وإن تخلقت أحداث باعدت بينهما، لفترات قد تطول أو تقصر ولكن ما إن تلتقيا حتى ينقشع الضباب!

«الصداقة هي من أثمن الأشياء في الحياة، والحياة من دون صديق باهتة مفعمة بالكآبة والوحدة، فالصديق وطن صغير!» والصداقة الحقيقية هي التي لا تنتهي أبداً، تترعرع بوجدانك حتى الرحيل، تماما مثل الشمس إن غابت نعرف أنها ستشرق. من جديد إنها كفرحة دائمة، كعيد مستمر ومتنقل. والصديق الحقيقي هو الذي تكون معه كما لو أنك مع نفسك، وهي كالعلاقة بين العين واليد: «إذا تألمت اليد دمعت العين! واذا دمعت العين مسحتها اليد!» والصديق الذي تكون معه، مثلما تكون وحدك، هو الإنسان الذي تعتبره بمثابة النفس. وهو علامة فارقة في حياتك، إنه من يراك بعيونك.. وكفى.