Atwasat

ومضات متقاطعة (7): جدي بن ساسي

محمد عقيلة العمامي الإثنين 04 نوفمبر 2019, 09:29 صباحا
محمد عقيلة العمامي

(حوش) جدي بن ساسي، غير بعيد عن النخيل المثمر، المنتج للتمر (الطابوني) وأيضا (البرلصي) المنتشر من منطقة الصابري حتى اللثامة. كان مسكنه فسحة متربة بها غرفة واحدة، وبالفسحة أكداس من جريد النخيل، كان يجففه ويصنع منه أطباقا، وقففا وتلك (الفتة)، الدائرية التي تستعمل كسجادة تتحلق حولها العائلات وقت وجبتي الغداء، أو العشاء. ذات عشية رمضانية أخذني إلى ذلك النخيل لنلتقط التمر المتساقط من العراجين الحبلي به.

وأذكر أنني انتبهت إلى أنه كان يضع التمرة الصحيحة في جرابه، أما التي نقرتها الطيور فإنه ينفخها لينظفها من الرمل ويأكلها، كان يتمتم: «هذي كويسه نفطروا عليها، وهذي منقوبه نكلوها تو..» إما يعطيها لي أو يأكلها هو، فسألته كيف يأكلها وهو صائم؟! وصعق وتعوذ من الشيطان وقال: «لا حول ولا قوة إلاّ بالله ... والله نسيت!» ونبهني ألا أخبر جدتي، قائلا: «عيب الراجل يفطر في رمضان!ّ» ولكنه بمجرد أن دخل البيت قال: «يا زمزم.. خوك سهىِ وفطر، والله لولا محمد دقيق راني كملت التمر(أُكّل)! ..». وظلت عباراته ذات لكّنة أهل غرب البلاد: «عيب الرجل يفطر في رمضان» تمنعني طويلا من إفطاره.

كان إفطار رمضان عارا، ولم يكن صيامه مشكلة لأننا، حتى نهاية الخمسينيات، كنا شعبا يصوم بالضرورة! الإفطار خبز شعير جاف، أما القمح فهو ترف، يغمس في الشاي المغلي، مرتين أو ثلاث، أما خبز الأفران الأبيض، لا ننال غايتنا منه، إلاّ إذا سمعنا عويل مأتم في شارعنا أو الشوارع المجاورة، كان إكرام الميت دفنه، يعني من بعد ظهر اليوم نفسه، فننطلق كالشرر نحو بيت المأتم ونتسمّر هناك، حتى يخرج جثمان الميت، ومن خلفه أحد من ذويه، بقفة أو اثنتين ممتلئتين بأنصاف أرغفة بيضاء مقرمشة الحواف، طافحُ محها الأبيض كالجمار بزيت الزيتون، توزع علينا، إنها صدقة الميت! فننطلق بها، كالريح، نحو منازلنا، لتضيف أمهاتنا ملعقة سكر فوق الزيت، فنتقرفص أمام بيوتنا، نقضمها بلذة تأخذنا حد الخدر!

أما وجبة الغداء فمحددة بأربعة أو خمسة أطباق، أرز، أو دشيشه، أو كسكسو وطبائخ البطاطس والبقول المجففة، أما الخضراء في مواسمها. مقلي الباذنجان والطماطم والبطاطس وطرشي البكيوا للعشاء وأحيانا منقوع الفلفل (المّصير) والقليل من زيت الزيتون وكسر الخبز المتبقة من الغداء!

أما اللحم لا تأكله الغالبية سوى مرة واحدة في الأسبوع، غالبا يوم الجمعة، وهو في العموم لا يرتقي إلى الهبر، فكوارع الشاة، وأحشاؤها، وتشكل قطع الرئة وزوائد خليط الأحشاء، مجموعات نسميها (عرم) لا تتعدى ربع الكيلو هي وليمة يوم الجمعة، أما لحم شاة العيد الذي يقدد مع شحمها يظل بالزير طوال العام، وأذكر جيدا أن والدتي تعلن عن نضوبه بأيام قليلة قبل ليلة عيد الأضحى التالي. الحليب، أو بمعني أصح اللبن، والزبد يصلنا من أقربائنا في قمينس في أواخر أيام الربيع. فواكه الموسم لا نراها إلاّ بعد أن تكثر في السوق. ويظل الربيع موسم الترف الحقيقي؛ (القعمول) و (الغرمبوش) و (كريشة الجدي) و ( الحلبة) معروضة مع الزبد واللبن، و (المصيّر) في «سوق الحشيش».

كان فقرا باذخا! الفواكه والحبوب بنكهاتها، لا كيماويات، ولا بذور معالجة جينيا. لا أحد من جيلي لا يسترجع، الآن، وهو متكئ في غرفته المكيفة، وأمامه صحن المكسرات وسفرة الفواكه تلك الروائح الفائحة التي تعبق شوارعنا قبيل الآذان لمغرب يوم رمضاني، ولا يسترجع صورنا ونحن ننطلق من منازلنا نحو منازل جيراننا نتبادل ما تتفنن فيه أمهاتنا من وجبات بسيطة ولكنها فائحه، روائحها تعبق الشارع.

ولو قدر إن كانت في ذلك الوقت أقمار صناعية لصورت من السماء، نصف الساعة الأخيرة من أي يوم رمضاني، لرأينا أطفال أي شارع يهرولون ما بين بيت وآخر، بسراويلهم وقمصانهم و (معارقهم) البيضاء التي لونها تراب شوارعنا، وفساتين البنات من قماش (الطفطة) الملون بالنوار، وكأنهم مشهد من لعبة الكترونية، كالتي يتحلق حولها أطفالنا الآن.

أما إن سمعنا صوت سي السنوسي، وهو يجوب الشوارع عند الظهر مناديا: «حوت.. حوت. كلب بحر!» ننطلق وراءه لنرى السمك وكلاب البحر، ومن بعد العصر يعبق الشارع برائحة الثوم والكمون.. إنها ليلة حرائمي وأسماك سردين مقلية للرجال، وهبر كلب بحر للأطفال تفاديا لشوك السمك الرقيق.

لا نمضي أكثر من دقائق، من بعد أذان المغرب، حتى نترك (الفتة) التي تحلقنا حولها على الأرض وننطلق إلى الشارع مغنيين: «حارنين عالقناق ما بوا يطلعوا يلعبوا في الزنقه.. خوافين من ليهود فراغين بلا برود» وننطلق جماعات في ألعابنا المختلفة: «لييييبرا». ويخرج بعضنا بصفرة مملؤة بـ«الدبلا» نحو سينما النهضة، عندما كنا في شارع محمد موسي، أو أمام قهوة سي عقيلة عندما كنا في شارع نبوس، تلتقطها الأيدي القادرة على دفع (المليم) وما إن تنتهي صفرة (الدبلا) حتى نعود بالملاليم لأمهاتنا، يحتفظن بتلك الثروة، لأزمة ملابس العيد. كان شهر رمضان رائعا في أيام الصيف، لا أمطار ولا مدرسة، ولكنه أصبح صعبا بالنسبة لي، فلقد أصبحت مهمتي التي كلفني بها سي عقيلة، من بعد أن بلغت من العمر ثماني سنوات، الذهاب مبكرا إلى معمل المالطي (شويرب) للمشروبات الغازية والكحولية، والثلج وأعود بلوح الثلج وأضعه في حوض زجاجات مصنع الدنيني، وأيضا المحرصي للمشروبات الغازية! أما أيام الشتاء فكانت مدرسة، وصقع! ولكننا نعود منها بتمر توزعه علينا النقطة الرابعة!

كانت أيام فقر، وجوع وقمل لعين وبق نتن الرائحة؛ القمل يتساقط فوق تلك القماشة البيضاء بفعل أسنان «المشط العمي» الذي تستعمله أمهاتنا مرة أو مرتين في الأسبوع، أما البق النتن اللعين كان يمتص دماءنا كل ليلة. سقف البيت من أعواد خشب الصّنور، والطين المعجون بتبن البحر هو الذي يشكل الملاذ الآمن للبق. لا تراه في النهار ولكن ما إن يقبل الليل حتى ينزل أسرابا نحو النائمين.

في منتصف الخمسينيات، حينما تمكن «سي عقيلة» من شراء سرير حديدي من مخلفات الجيش البريطاني، وصل (براكة) سيدي عمر دقيق في سوق التركة، فأحضرها في الحال إلى (وافيه): «هذا سرير حديد .. ثمنه جنيه، يدفعها عقيلة على مهله، إنه الأفضل لمنع البق من الوصول إلى محمد..» وكان سريرا لما رآه ابن عمى بوبكر عكيز، ورفيق طفولتي لمصدي صاحا في وقت واحد: «واو.. (نموسيه) حديد» ولكن البق اللعين تسلق أرجل السرير! ولا أدري كيف خطر على بالي أن أمنع وصوله إلى أرجل السرير بوضعها في علبة صفيح مملؤة بالماء. وبالفعل نعمت بليال من دون البق ورائحته الكريهة.

ولكن ذات يوم اكتشفت أنه وصل جسدي، وامتص من دمي. وفي ليلة أقلقتني رائحته المزعجة، فجفاني النوم فشاهدته يتجمع في السقف فوق سريري مباشرة ثم يسقط فوقي مباشرة، واكتشفت أنه اتخذ من زوايا السرير والفراش مستقرا!.

كان فقرا قاسيا على الحكومة أيضا. منذ أيام كتب الأستاذ سليمان امنينه، عن قصة عجز بلدية بنغازي سنة 1952، وهي السنة التي أعلنت فيها الأمم المتحدة أن ليبيا ثالث أفقر دول العالم! فقال أن السيد ونيس القذافي رئيس الحكومة أخبر السيد حسين مازق والي برقة أنهم عاجزون عن ترميم شوارع بنغازي المتربة، وميزانية البلدية بالكاد تغطي احتياجاتها، واقترح أن يتصلوا بقبطان بسفينة النقطة الرابعة الأميركية، ويطلبوا منه ألاّ ترجع (الأشولة) المحملة بالقمح بعد تفريغها، وتباع وترمم بثمنها الشوارع، وافق القبطان، وبيعت (الشوالات) وهي من قماشة بيضاء، وما غفل عنه الأستاذ سليمان امنينه عن ذكره، أن تلك الشولات البيضاء ممهرة بكفين متصافحين، وهي علامة النقطة الرابعة، أصبحنا نراها في الجزء المخفي من السروال العربي تحت القميص! وأحيانا يكون جزء من العلامة في طرف من أطراف القميص!

كانت أيام فقر باكية! ولكنها كانت أيام دفء إنساني تبخر مع أيام الثراء وكثرة اللحم والرز والمشروبات الغازية.. ولم يعد إفطار رمضان عارا!

وأنا أكتب هذه الوقائع للجيل الذي لم يعشها، تمهيدا لأحدثكم، في الحلقة القادمة، كيف كانت العلاقات الإنسانية.. كيف كانت الصداقة، التي لم أعد أرى مثلها الآن!