Atwasat

إطلالة خاطفة من نافذة بعيدة

جمعة بوكليب الأربعاء 30 أكتوبر 2019, 04:04 مساء
جمعة بوكليب

لو أن التاريخ قطار، والمدن محطات، لربما اختار المرور ببعضها، وتجاوز البعض الآخر متجاهلا. أو لربما فضل التريث، لحظات قصيرة، في مدن أخرى، على أمل الوصول، أخيرا، للاستراحة والإقامة، حيث يأمل ويشتهي: باريس.

يبدو لي أن المدن التي اجتباها التاريخ، مثل باريس، وروما، ولندن، والقاهرة وغيرها، حين تكبر مساحاتها، وتزدحم أحياؤها وشوارعها بالبشر، تفقد ما ألفته وتعودته من توازن، وتدخل في ما يشبه دوامة سريعة الإيقاع، بشكل يربكها، ويصيبها بما يشبه شللا مؤقتا. لذلك، ورغبة في وقف تلك الحالة المربكة، تسعى إلى إعادة الإمساك بما فلت منها من خيوط، على أمل أن تعيد الاتساق إلى إيقاعها، بما يتماشى مع ما أصابها من تغيرات، وما ألم بها من مستجدات. ويبدو لي، أيضا، أن باريس كانت وما زالت الأسبق من المدن الأخرى والأحرص على الريادة.

الفضاء الباريسي مشحون سياسيا بتوتر واضح منذ فترات ليست قصيرة، نتيجة الضغوطات الاجتماعية المتغيرة، والظروف الاقتصادية الصعبة، وما يحيط بها من توترات في الساحة الدولية، نجم عنها ظهور حركات شعبوية من ضفاف اليمين، التي اعتبرت في حكم المنتهية تاريخيا، وبشعارات وسياسات وأهداف تعيش على مخاوف الناس من مستقبل يحمل كثيرا من النذر، وتمكنت في أعوام قليلة من اعتلاء المسرح السياسي، قادمة على أمواج معاداتها الهجرة وكراهية المهاجرين، واستعدائها النخب الحاكمة في عديد من العواصم الأوروبية والآسيوية.

العاصمة الفرنسية باريس مدينة خادعة، فهي تبدو للزائر هادئة، مسالمة، ومستسلمة، بل وكأنها متحف لكثرة معالمها واتساع شوارعها، ولما تمتلئ به ميادينها من نصب تاريخية وتماثيل فنية، ونوافير، ومعمار مذهل، وما بها من حدائق عظيمة. لكن الزائر لو خطر بباله قلب الصفحة، والنظر إلى الوجه الآخر لباريس لأدرك أنها مدينة على علاقة وشيجة بالتمرد، وصفحات تاريخها كتبت بمداد من دم أحمر. وهي مدينة بقلب لا يكف عن النبضان بقلق وتوتر، وببوصلة تميل نحو الاتجاه الذي يقود إلى التمرد والثورة.
آخر تلك التشنجات في القلب الباريسي الكبير تمثلت في ما صار يعرف بحركة السترات الصفراء. وهي حركة ظهرت في وقت وظروف كانت فرنسا فيها تعبر مرحلة اتسمت بالعنفوان السياسي، والاعتزاز الوطني، والاستقلالية، قادها قادة تاريخيون من مختلف الأطياف، واستطاعوا وسط بحر متلاطم الأمواج، شديد الاستقطاب، الحفاظ على استقلالية القرار الفرنسي، والابتعاد بفرنسا عن محور الاستقطاب الثنائي والتحالفات العسكرية الكبيرة. وبدأت أخرى جديدة، مختلفة، يقودها قادة جدد، ينتمون إلى جيل مظاهرات العام 1968 المشهورة، الذين كانوا يرفعون شعار كن واقعيا وطالب بالمستحيل. الرئيس السابق نيكولاي ساركوزي يعد أولهم، وانتهى نهاية غير متوقعة، ومشوبة باتهامات.

وهو، بدوره، مهد الطريق لوصول إيمانويل ماكرون الأصغر سنا، والأقل تجربة في العمل السياسي، وبرؤية تعتبر مخالفة لما كان سائدا، على أمل إحداث تغييرات في السياق الفرنسي، تضخه بدم حياة جديد، وعصري. لكن تلك الرؤية الجديدة ليس سهلا تطبيقها على واقع تتخندق فيه مصالح ثابتة، لطبقة اجتماعية واسعة، ومتعددة الفئات، وممثلة سياسيا ونقابيا بحركة عمالية قوية، ولدت ونشأت وترعرعت في كنف اليسار.

مطالب الحركة الجديدة غرقت في فوضى ما خلقته كوادرها من أجواء عنف وتدمير وتخريب، طالت باريس والمدن الأخرى، وتسببت في وقوع خسائر جسيمة للاقتصاد الفرنسي، وكانت بمثابة حصان طروادة استغله اللصوص والمحتالون لصالحهم في عمليات نهب واسعة طالت المتاجر والمخازن التجارية الكبيرة، الأمر الذي استدعى تدخل الدولة بقوة عبر أذرعها الأمنية، وتحولت شوارع وميادين باريس إلى ساحات حرب ضارية، منقولة مباشرة على قنوات التلفاز، وعبر وسائط التواصل الاجتماعي بين المتظاهرين والبوليس. أضف إلى ذلك، ما كان واقعا من حرب أخرى عرفتها فرنسا ضد الإرهاب، وما اتسمت به من وحشية وقتل ومطاردة، وما سببته من آلام، وما خلقته من انقسامات داخل النسيج السكاني، المتميز بتعدد مكوناته العرقية والدينية.

حكومة الرئيس ماكرون تحت هذه الضغوط قبلت، مترددة، بإعادة النظر في ما طرحته من سياسات، بهدف استرضاء الفئات المتضررة، ومحاولة تخفيف الضرر، سواء بالتعديل، أوالإلغاء، أو التصحيح. وحين تمكنت من تهدئة الأمور حدث ما لم تضعه في حسبان: إضراب رجال الشرطة، لأول مرة، بعد قرابة عشرين عاما، إذ خرجوا في مسيرة أطلق عليها اسم «مسيرة الغضب»، تضم نحو 20 ألفا منهم، في ملابس مدنية، حاملين أعلاما ولافتات تطالب بتحسين ظروف العمل السيئة وتندد بتغيير الحكومة قوانين المعاش.

حروبهم المقيتة الطويلة ضد أصحاب السترات الصفراء كانت وراء إصابتهم بالإعياء والإرهاق والتعب، وانخفاض المعنويات، مما أدى إلى ارتفاع نسبة الانتحار في صفوفهم، وإحالة كثيرين منهم كنزلاء على أسرة المستشفيات النفسية جراء معاناتهم من الكآبة والإجهاد. أضف إلى ذلك قرارات حكومة الرئيس ماكرون بإحداث إصلاحات في قانون المعاش، وافتقادهم الدعم من الحكومة ومن المواطنين.

ليت المضربون يتذكرون أن لصوص باريس لم يتوانوا عن تقديم دعمهم للإضراب، وتمنياتهم له بأن يطول.