Atwasat

بيعة القبيلة

نورالدين خليفة النمر الإثنين 28 أكتوبر 2019, 12:54 مساء
نورالدين خليفة النمر

تُلفت انتباه المُراقب للشأن الليبي المظاهر القبائلية غير المفهومة، التي تحيط برئاسة، وقيادة المؤسسات الموازية في الشرق الليبي، بما يُذكرُّ بوثائق العهد والمبايعة، في العهد الدكتاتوري المُسقط عام 2011 بالثورة الشعبية الليبية، التي مفارقتها أنها انطلقت مظاهرتها من بنغازي، ومظاهرها العنفية من عاصمة القبيلة البيضاء. ونقرأ في 20 أكتوبر 2019 بصحيفة الوسط التي تتوخى نشر أخبارها حسب صيغتها الواردة من مصدرها الأصلي هكذا: "قبائل برقة تجدد دعمها مجلس النواب وحفتر". مضمون الخبر يُفهمُ منه رّدة فعل تأتي بالتواقت مع مبادرات دولية جادّة ـ ربما للتشويش عليها ـ بهدف حلحلة الأزمة السياسية الليبية، وفكّ حالة الاختناق السياسي، وماتلفه من تبعات احتقان العنف والاحتراب. كما أن صيغة عنوان الخبر تبعث برسالة سلبية للمجتمع الدولي. وبالذات فقرة البيان التي تؤكد على دور مجلس النواب في الإعداد لمؤتمر برلين.

وحتى نكشف مايبدو في الأذهان طلّسماً في التباس السياسي بالمجتمعي نطبّق معايير "سوسيولوجيا ـ تنا" مستندين على العلاّمة ابن خلدون الذي محور العمران البشري، في اجتماعه السياسي في السلطة والإخضاع أوالخضوع. حيث يستمر الأخد بمنهجيته النافذة حتى وقتنا الراهن، والمعتبرة للوقائعية، في تحليلها الذي اجترح تطويرات حاسمة في كثير من المفاهيم الدينية التي انبنت على واقع اجتماعي، أخضعته وخضعت له حسب المعطيات الواقعية للمعاش. ومن أبرز التطويرات الخلدونية، ترتيبه الوصفي لأسس المشيخة والإمامة أو الإمارة ومنها شروط البيعة التي لا تنعقد في حالة فقد واحد منها إلا بشوكة الحاكم وغلبته لحيازته قوة العصبية.

إذا أخدنا بالمدلول الثقافي لنظرية "Core≠Periphery "المركز والأطراف،نتفهم ابتعاد الدعوة السنوسية في صيغتها الليبية القرن 19 بتوجهها الإصلاحي، والسياسي عن مركز الدولة المدنية في إيالة طرابلس، إلى الطرف البرقاوي حيث تسود الريفية وشبه البداوة. وتسير أمور الاجتماع البدوي وشبهه القبيلة وأعرافها، ومثل مافعل الإسلام الأوّلي، دمجت الدعوة القبلية في جسمها السياسي، وانضاف البُعد الجهادي ليفكك القبيلة السعادية السيّدة، فتصير وشيخها مجرّد دور أوفرقة في الجيش السنوسي، تحت إمرة محارب سنوسي من قبيلة المنفة المرابطة كعمر المختار، أو من قبيلة الزغاوة غير الليبية كقجة عبدالله التشادي.

في تاريخ الوطنية الليبية انعقدت البيعة مرتين. واحدة في الحقبة التحريرية، حيث مازالت تهيمن على الأذهان الخلافة الإسلامية المتهاوية في استنبول. فصار واجباً لتحقيق مطلب التحرير على هيئة الإصلاح المركزية التي التأمت سنة 1922 بالإقليم الطرابلسي. أن تقوم في مؤتمرها بمبايعة إدريس السنوسي أميرا للقطرين طرابلس وبرقة، وذلك من أجل توحيد العمل في الدفاع عن البلاد، والجهاد ضد المحتلين. أما في إمارة برقة السنوسية التي انبنت على التقاليد الحضرية في بنغازي ودرنة التي تكرّست بفعل التأثيرات التي أحدثها الاستعمار، فلم تكن العصبية القبلية عنصراً محورياً في السلطة، بل كانت عنصراً قبلياً داعماً ومحدود الرمزية إلى جانب المشروعية الدينية والجهادية للأمير السنوسي، ومقتصراً على إقليم برقة. وكان الاستقلال غاية تستهدفها ليبيا في أقاليمها الثلاثة، التي وحدّها الحدث الاستعماري وفتت أقاليميتها. وأيضاً تنفيذ إرادة الدول الحليفة المنتصرة في الحرب العالمية الثانية، ومهمة أوكلت للأمم المتحدة بترتيب من الدول النافذة فيها. وهذه الأمور راعتها “جمعيّة الستين” برئاسة مفتي ليبيا الطرابلسي فرأت أن ترفع قرارها باعتبار أمير برقة إدريس السنوسي ملكا شرعيّا على ليبيا. ولكن الذي صير هذا القرار بيعةً لها شكل المبايعة الشرعية ومضمون المبايعة القبلية ، هو المندوب البرقاوي الذي ضغط على الجمعية للانتقال إلى بنغازي، لأن البيعة ينبغي أن تُسلّم باليد، حتى يستطيع الملك المعيّن مزاولة اتصالاته بالطلب من الإدارات الحاكمة تسليم السلطة إلى الحكومة الوطنيّة. وهو ما جرى يوم 17 ديسمبر 1950.

ولكن الأمير الذي كان مُتفهماً للمعطيات الدولية التي على ضوئها منحت ليبيا الاستقلال انحاز في مفارقة تُحسب له إلى الدستورية. فرأى أن تكون البيعة رمزية، وأن تولي المُلك لايتم إلاّ بعد اعتماد الدستور وتسلّم الحكومة المؤقتة للسلطة الفعلية في إقليمي طرابلس الغرب وبرقة. وهكذا نتبيّن أن"جمعيّة الستين" الهيئة المنتخبة من الأمير والأحزاب والأعيان أُصدرت قراراً، ولكنها أكرهت بالضغوط القبائلية على تحويله إلى بيعة قبلية وليست شرعية، لأمير برقة، الذي هو شيخ الطريقة السنوسية الدينية المتجاوزة لحدود القبلية، وحتى القطرية التي رسم حدودها الاستعمار الإيطالى. حيث كان الجهاد في السودان الغربي، ومواجهة الإنجليز تحت راية الإسلامية العثمانية غرب مصر. ولقد ارتأت دراية إدريس السنوسي بالمعطيات المتحكمة في نشأة الاستقلالات إعاده البيعة المهوّنة بالقبائلية إلى أصلها قراراً تنفيذه يتطلب اعتماد الدستور، وتسلم الحكومة المؤقتة لمهامها لتهيئة ليبيا لاستقلالها.

ملازميو الجيش، الذين قضوا على الملكية بالانقلاب العسكري في 1 سبتمبر 1969 استندت مشروعيتهم على الغلبة، وقوة السلاح التي تحتكرها مخازن الجيش، وصرّح بذلك رأس الانقلاب مرّات عديدة إزاء المحاولات الانقلابية العسكرية في السبعينيات والهجومات والعمليات الانتحارية التى نفذتها الجماعات المعارضة في الثمانينات، وآخرها المحاولة العسكرية القبلية عام 1993. ولم يأبه الملازمون الذين تعود أصولهم إلى الأرياف الهامشية، والمنضوون في ما سُمي بمجلس قيادة الثورة، وتنظيم ماسموه بحركة الضباط الوحدويين الأحرار، لما درج عليه النظام الملكي في تصورهم إلى اتباع الصيغ البالية من المشروعيات، كالبيعتين الدينية والقبلية. وإستمدوا بيعتهم بإستلهام العلمانيات القومية ، وأبرزها الظاهرة الشعبوية الممثلة في الزعامة الناصرية ،التي كانت توّهماً في ضمير الشارع العربي المُبهظ بالهزائم، المتصورة انتصارات على الثالوث الاستعمار والصهيونية والرجعية العربية .

انقلاب أغسطس 1975 المُفشّل، هو الذي أزاح الوهم الوحدوي العروبي، ونكص بالنظام العسكري إلى الأصل القبلي كسلاح إزاء الخصوم من رفاق الانقلاب، ومثل تقهقراً فادحاُ لما قبل مشروع الدولة الوطنية 1951 ـ 1969. وبما أن المحاولة الانقلابية تسمت بقائدها، وضباطها الأساسيين من قولوغلية مصراتة، فتم استدراج قبيلة ورفلة الغريمة لإظهار ولائها بغرض تعويض موقعها وحضورها الذي غيبه تصدر مصراته في مجلس الانقلاب وتنظبمه الضباط الأحرار، وبمراجعة مسيرات التأييد السبعينية نرى الصور لحشود في ثكنة باب العزيزية رفعت بجانب قائد مجلس الثورة، صورة زعيم ورفلة القبلي عبدالنبي بلخير الذي صدّ الهجوم الجهوي عن بلدة بني وليد وقتل المهاجم رمضان السويحلي الزعيم القولوغلي لمصراتة.

لقد أحدتث آلية تبديل مسميات الأشياء تحويراً في الكلمة من بيعة إلى مبايعة، وتكون في صيغة وثيقة عهد ومبايعة، مكتوبة بالدّم وتقدّم بعد قراءتها أمام وسائل الإعلام المحلية باليد لرأس النظام في خيمته.

نُفكر في القبائلية، ليست فقط كإكراه أبهظ مشروع الدولة الوطنية، ولامجرّد وسيلة السلطة الدكتاتورية الساقطة وقبائليتها عام 2011 بالثورة الشعبية، لإحكام مساوماتها الزبونية مع المجتمعية، ولا بغرض المماهاة مع الانقسامية الفوضوية التي تعبث اليوم بمستقبل ليبيا، ولكننا نتفكر فيها كصدع يتغوّل في الروح القبائلية، كما يتجلى تزييفها للتجربة الصوفية الإنسانية. وأمامنا كمثال صاعق كتاب "كتاب الحديقة.. وهو سفر الخلافة" متن مُدّعى لصوّفي ليبي متوهم سماه الشيخ بلخير الغذامسي، ولّفّقه المدعو موسى إبراهيم (القذافي) الذي يصف نفسه بسالك الطريقة وطالب الحقيقة. وألفه كما هو مثبت في الغلاف بين أعوام 1999 ـ 2011 بين مدينة إكستر الإنجليزية وبلدة بني وليد الليبية لتزييف كتاب "المواقف والمخاطبات" لصوفي القرن الرابع الهجري محمد عبدالجبار النفري الذي اشتغلنا عليه بداية ثمانينيات القرن الـ 20 في أطروحة علمية. ومن معمار الكتاب الذي قسّمه مواسم وحكايات متوهمّة تفاجئنا السردية القبلية "زيتونة بايع راسه" التي تحكي أسطورة في القرن الـ 19 ملتقى مبايعة بين قبيلة القذاذفة وخوت الجدْ قبيلة ورفلة، استدعاها الدكتاتور القذافي في شعبذاته التي كتبها فيما آرتىه قصصاً، مبتزّاً بها قبيلة ورفلة التي خانه ضباط عسكريون من أبنائها ليفتكوا منه السلطة عام 1993 في محاولة انقلابية من حظ ليبيا أنها كانت فاشلة.