Atwasat

نبضات متقاطعة (6): حمار سي يونس

محمد عقيلة العمامي الأحد 27 أكتوبر 2019, 11:55 صباحا
محمد عقيلة العمامي

إن صديقك هو "أنا آخر، هو أنت" وبهذا يتفق الفيلسوف أبو حيان التوحيدي، مع الفيلسوف (كانت) الذي قال: "الصداقة أسمى شعور متبادل" وهو شعور ينبثق من "محبة أخلاقية" مثلما قرر الفيلسوف (أرسطو). ذلك كله يتفق تماما مع قول حديث لخليفة الفاخري لأحد أصدقائه: "إنك تراني بعيوني ..".

صديقك، إذن، هو "من يراك بعيونك". وهو في تقديري، أقوى بكثير من قول انتشر عند بدء معرفتي للصداقة، يعني في مطلع ستينيات القرن الماضي، يقول: "رب أخ لك لم تلده أمك".

قد يكون عمري حينها حوالي خمسة عشر عاما! ولعل استغرابك من استخدامي لكلمة "حوالي" قد يدفع أحفادي إلى حك فروة رؤوسهم مستغربين! كيف لا يعرف جدهم الذي يرون فيه عالما يعرف كل شيء، أنه لا يعرف تاريخ مولده؟ الواقع أنني أحتفظ ضمن أوراقي بثلاثة وثائق ميلاد مختومة وليست مزورة وصادرة من بلدية بنغازي واحدة تقول: "أنني من مواليد سنة 1944 بحسب تعداد 1955 وثانية في تعداد لاحق أنني من مواليد 1946 وثالثة وهي أنني من مواليد 1943.

أنا أعرف أن الأخيرة ليست حقيقية فلقد تحصلت على تاريخها من محكمة أحالتني إلى طبيب باكستاني قرر، مقابل صندوق حليب كارنيشن" أنني مواليد سنة 1943، وكانت الشهادة التي أعفتني من المشاركة في حرب تشاد، أو أوغندا.. أو أي مكان آخر قرره حكامنا من بعد أن أصبحنا الجمهورية العربية الليبية سنة 1969.

ولأنني: "لا أحب أن أقتل احدا، وأيضا، ألا يقتلني أحد" تماما كالأرنب مثلما قال صادق النيهوم. والحقيقة أنني لا أستطيع أبدا مشاركة أحد في طقوس ذبح البهيمة، ولا متابعة برامج الافتراس في قناة "الناشيونال جقرافيك" بل في الواقع لا أذكر أنني شاركت ابتهاج أسرتي احتفالات أصباح أعياد الأضحى الدموية، وإن كنت أشاركهم مآدب الشواء!

وكثيرا ما تساءلت، بيني وبين نفسي، هل مرجع ذلك إلى أنني جبان، ولكنني أرجح أنني لست كذلك، فكثير من أحدات مررت بها تثبت أنني مقدام حد التهور!

بسبب عدم الاهتمام بتوثيق تواريخ الميلاد من بعد الحرب العالمية الثانية، فليبيا لم تعد مستعمرة إيطالية ولا انجليزية، فتلك هي سنوات مخاض قيام المملكة الليبية، وهي أيام كانت أهم بكثير من توثيق مولد طفل، على الرغم من أن سي عقيلة انتظره سنوات طويلة! ولكن محمود شمام أحد رفاق طفولتي، وثق والده تاريخ مولده وأكد لي وله، أنني سبقته بشهر كامل فكان ذلك شهر يوليو سنة 1946 فاخترت يوم 23 يوليو 1946 وجعلته تاريخا لمولدي، على الرغم من أن مستنداتي الرسمية كلها تؤكد أنني من مواليد 1943 ولكن إن أطال الله في عمري سوف أبحث عن طبيب بنقلاديشي هذه المرة وأستصدر شهادة أصحح بها تاريخ مولدي، أو أتركه كما هو للشهادة النهائية التي ننتظرها جميعا!

لعل أقدم ما أتذكره، زيارات تتكرر بين حين وآخر إلى جدي (بن ساسي) وهو في الواقع ليس جدي تماما وإنما أخو جدتي زمزم، وهي والدة أمي، وحماة سي عقيلة (اللدوده). كانت بين الفنية والأخرى تكترى لنا (كروسه) سيدي يونس الذي لا نراه صاحيا إلاّ في الصباح الباكر، أذ يجد حماره ينتظره يثبت ذراعي الكروسة حوله وينطلق به إلى الفندق البلدي فينقل من يستطيع نقله، وينتهي يوم عمله مع العصر. يربط حماره بالكروسه في خرابة غير بعيدة من خمارة مشهورة في ذلك الوقت، في الجهة المقابلة لمصنع شفيق خزام، وغير بعيدة من ورشة الطريدي (للبليستري). ويبتاع من الخمارة زجاجة (البوخة) المعتادة، ويقضي عشيته مع حماره ولا يبخل عليه بدلاعة أو بطيخة، والكثير من بواقي الخضار الذي يجمعه من الفندق، ويشرب زجاجته كلها ولا يتحدث إلاّ مع حماره، الذي لم يضربه أبدا، إذ يُعد (الكرارسي) الوحيد الذي يسير حماره من دون عصا!.

يترك الحمار يقتات ما يتوفر له ويحتسي هو زجاجته حد الثمالة ويستلقي على الكروسة وينام. ينظر الحمار أحدا ممن يعرفون حكاية سي يونس اليومية، يفكون وثاق الحمار. وينطلق به نحو كوخ سي يونس النائم فوق العربة، تمر الكروسة يوميا من بعد مدرسة الأميرة بقليل عبر شارع عمرو بن العاص، كان اسمه حتى استقلال ليبيا - فيتا روجينا – يمر علينا في قهوة سي عقيلة قبيل المغرب بقليل ولا يتوقف الحمار إلاّ عند مربطه. العجيب أنه عندما يصل ميدان الشجرة – كان اسمه بيتسا كاني – يقف أمام دكان سي عوض التركي، إلى أن يشير إليه عسكري المرور ليعبر الشارع، لم يكن في ذلك الوقت عربات كثيرة، ولكن عربات الجيش البريطاني، هي التي كانت كثيرة.

عندما تريد جدتي زيارة شقيقها تنطلق بنا، أنا وأمي، عند الفجر نحو كوخ سي يونس، توقظه وينطلق بنا إلى دكاكين حميد، ليعود إلى الفندق في وقت عمله. أما خلال العودة فالكراريس، التي تجرها الحمير، والكاروات التي تجرها الخيول، متوفرة للنقل الجماعي إلى ما بعد العصر بقليل. فتسهل عودتنا. ذات مرة سألت سيدي يونس، لماذا لا يملك عصا أو سوطا يضرب به الحمار ليسرع أو يحسن السير، أجابني: "الرجل لا يضرب صاحبه.. وهذا الحمار صاحبي!".
الآن، بعد العمر الطويل الذي لم ولن أعتبره مزريا، خطر على سي يونس، الذي استطاع أن يجعل الحمار صديقه، وأن الحمار عرف معني الصداقة من هذا السكير الذي لم يضربه قط، فكيف لرفيقين لا يعرفان ويقدسان الصداقة، هذه المحبة الأخلاقية؟