Atwasat

دفاعا عن الحياة السوية

عمر أبو القاسم الككلي الأحد 27 أكتوبر 2019, 11:53 صباحا
عمر أبو القاسم الككلي

رغم ما يمر به الوطن الليبي من ظروف بالغة السوء والعنت والغرابة، من صنع أبنائه أنفسهم، وما يحيق به من تخريب وتدمير، ويعبث بأهله من قتل وتهجير، وضع مستقبله على عتبة غموض وسوء مآل؛ يترطب وجدان المرء الحريص على صحة الوطن وعافيته ويتحايا عنده الأمل، حين يجد قلة من الوطنيين، ذكورا وإناثا، وشبابا وشيبا، يكرسون أنفسهم، بدافعية وطنية وإنسانية، لبذل الجهد بعكس هذا الاتجاه، من خلال تصديهم للدفاع عن الحياة السوية. فيؤسسون النوادي والجمعيات الثقافية والحقوقية والخيرية، وما إليها، ويقيمون الندوات وورش العمل والأنشطة الثقافية المختلفة، محاولين تضميد جراح الوطن والحيلولة دون تعفنها وتزايد مضاعفاتها. ويجد مثقفين وأكادميين، صادقين مع أنفسهم، ومخلصين لوطنهم وملتزمين بما تتطلبه الثقافة ويقتضيه العلم من تجرد وموضوعية في التعامل مع القضايا الوطنية، يخصصون قدرا كبيرا من وقتهم في تسليط فعاليات علمهم ومعرفتهم على ما يجري في وطنهم وتعرية جذوره الخفية المطمورة والكشف عن بذور العلاج الذاتي فيه ورسم (أو على الأقل: التأشير نحو) طريق تعد بتحسن وضعه وتخليصه، تدريجيا، من أزماته وعلله.

على المستوى الأخير، صدر عن "مركز دراسات القانون والمجتمع- جامعة بنغازي" بالاشتراك مع "مؤسسة فان فولينهوفين للقانون والحوكمة والمجتمع- جامعة ليدن" بدعم من سفارة المملكة الهولندية في ليبيا، كتاب بعنوان "الهوية الليبية: الأبعاد والمقومات، مقاربات متعددة التخصصات"*. ورد في تقديم الكتاب: "هذه مجموعة أبحاث أجريت ضمن شاغل ‘‘الهوية الوطنية‘‘" مع التنبيه إلى أنه "لأول مرة في تاريخ ليبيا تقارب مجموعة من البحاث الليبيين مسألة الهوية الليبية في أبعادها المختلفة، التاريخية، والجغرافية، والثقافية، والسياسية، والاقتصادية". وإذن، فمن الناحية العلمية والمعرفية، هذه "المقاربات متعددة التخصصات (multidisciplinary) ولا تشكل مقاربة واحدة بينية التخصصات" أي مقاربة بحثية متداخلة التخصصات (interdisciplinary) يقوم بها شخص واحد، أو بالاشتراك مع آخرين، باستخدام مناهج وفرضيات أكثر من فرع معرفي. ويوضح التقديم أن "هذا متوقع في الدراسات التي تتناول مسائل خلافية وغائمة مثل مسألة الهوية الوطنية". ينتظم البحوث جميعها سلك ناظم واحد يتمثل في "إحساس مشترك لدى كل المساهمين في هذا العمل بأن الأحداث التي مرت بها البلاد بعد فبراير أعادت طرح أسئلة الهوية الليبية: من هم الليبيون؟ ما المشترك بينهم؟ وما السبيل لتوظيفه في بناء دولة مدنية حديثة؟ وما المختلف؟ وما السبيل لجعله تمظهرا لتنوع يثري الثقافة المجتمعية ويسهم في ازدهارها، عوضا عن يكون سببا لصراع يعرقل مساعي المصالحة ويذكي أوار الشقاق؟". وواضح أنه، مثلما جاء في التقديم "ظلَّ الانضباط المنهجي، باستحقاقاته الصارمة، معيارا يحتفظ بهيبته التي تليق بخطره".

هذا الجهد، وسواه من الجهود المماثلة، رد بالغ القوة، على الذين يرفعون عقائرهم بالتساؤل عن غياب المثقف الليبي، واصمين إياه بالهروب والتولي عن دوره حين الحاجة إليه، وتخاذل النخب الثقافية.

* لا يسعني في هذا المقام إلا أن أسدي شكري البالغ وعرفاني العميق للدكتورة جازية شعيتير، التي تفضلت بمدي بنسخة من هذا الكتاب، وكراس ملحق بعنوان "دور القانون في المصالحة الوطنية في ليبيا. الهوية الوطنية".