Atwasat

القاتل مات والمقتول لم يمت!

عبدالقادر البرعصي السبت 26 أكتوبر 2019, 04:48 مساء
عبدالقادر البرعصي

يعد بينيتو موسوليني من أشهر الطغاة الذين مروا على ليبيا، وولغوا في دماء شعبها، في النصف الأول من القرن الماضي، تحت إشراف ممثله، إيتالو بالبو، حاكم ليبيا ونائبه، رودولفو غراتسياني، إبان الاحتلال الإيطالي.

عمل الاثنان بدعم من موسوليني على إبادة الشعب الليبي قتلا وتهجيرا، وبالشنق الفوري في محاكمات صورية، وإقامة المعتقلات الجماعية للآلاف من الليبيين، بخاصة سكان الجبل الأخضر، جلهم من النساء والشيوخ والأطفال. فقضى أكثرهم في المعتقلات جوعا ومرضا وقهرا، أو رميا بالرصاص. وكان غراتسياني يقول: «لقد قررت وصممت، ولن أتراجع حتى ولو أدى هذا الإجراء إلى فناء أهالي برقة جميعهم». (1)

ومن العجيب أنه «عندما أعلنت إيطاليا الحرب على الدولة العثمانية وتحركت لغزو ليبيا العام 1911، قاد موسوليني ككل الاشتراكيين والشيوعيين مظاهرات ضد الحرب وحوكم وسجن لعدة أشهر. وبعد إطلاق سراحه رحب به الاشتراكيون وعينوه رئيسا لتحرير جريدتهم الوطنية (إلى الأمام)».(3)، ولكنه ما لبث أن نشر مقالا يطالب فيه إيطاليا بالدخول إلى جانب الحلفاء (الدول الرأسمالية) في الحرب العالمية الأولى، فطرد من الحزب الاشتراكي.

انخرط موسوليني في الحركة الفاشية المناهضة للشيوعية والديمقراطية على حد السواء، والداعية إلى العنف، فقام بالاستعانة بالمحاربين القدامى المهمشين، الذين تفشت بينهم البطالة بعد عودتهم من الحرب العالمية الأولى. وقد استغل موسوليني غضب الشعب بصفة عامة والجنود العائدين بصفة خاصة نتيجة للظروف الاقتصادية والاجتماعية المتردية التي سادت إيطاليا بعد انتهاء الحرب.

تمكن موسوليني من دخول البرلمان في العام 1921، وبدأ بالاستعانة بالفرق الفاشية المسلحة (القمصان السوداء) وأغلبهم من المحاربين القدامى وزحف العام 1922 بنحو أربعين ألفا من مختلف المدن الإيطالية على روما. ونتيجة للذعر الذي شعرت به الحكومة دعا الملك، عمانويل الثالث، موسوليني إلى تأليف حكومة جديدة وكان عمره آنذاك 39 سنة.

تمادى موسوليني وحكومته الفاشية في قمع مؤسسات الحكم المنتخبة وقتل المعارضين. وفي أبريل 1926 جرمت الإضرابات وتم إلغاء كل الأحزاب إلا الحزب الفاشيستي، وتم إنشاء معسكرات التسييس الفاشيستية للناشئة. ثم شن حربا ثقافية ليعم فكر الدوتشي، أي القائد، لقب موسوليني المفضل.

امتلأت الساحات والشوارع بصور موسوليني وإعلانات كبيرة تخلد إنجازاته. كما بدأت حركة تنظيم شاملة لطلبة المدارس والجامعات على استخدام السلاح وحفظ الأناشيد القومية، وبدأت حملة تجريد العشرات من الصحفيين من هوياتهم في النقابات الصحفية، كما أغلقت جميع الصحف والمجلات الأدبية. وتشكلت لجان في كل مكان لإصدار قوائم سوداء بالمثقفين المحظورين، وبأسماء الكتب المعادية التي يجب حرقها وإتلافها ومنعها من التداول.

بعد سيطرته على زمام الأمور، واصل الحرب التي شنتها إيطاليا على ليبيا، رغم مشاركته في مظاهرات الاشتراكيين ضدها عند إعلانها كما أسلفنا. وهذا التناقض ليس غريبا، لأنه ليس من أصحاب المبادئ الراسخة، بل كان نرجسيا لا يهمه إلا تلميع صورته وتحقيق مصالحه الشخصية بأي ثمن، بما في ذلك التزلف والنفاق. كان يريد أن يعبر إلى أمجاد الإمبراطورية الرومانية على جماجم الأبرياء، ولكن القدر كان له بالمرصاد. وجاء الدور على الأوغاد الثلاثة ذلا ومهانة الواحد تلو الآخر.

قتل بالبو في 28 يونيو 1940، بواسطة نيران مدفعية إيطالية أصابت طائرته ومزقت أشلاءه في سماء طبرق، ليبيا، ويشتبه في أن لموسوليني يدا في مقتله.

أما نهاية موسوليني الرأس المدبر فكانت بحجم ما ارتكب من جرائم، وصدقت فيه نبوءة رسول الله صلى الله عليه وسلم، حيث قال: «إن الله ليملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته! وكذٰلك أخذ ربك إذا أخذ القرى وهي ظالمة إن أخذه أليم شديد».
فكانت نهايته مخزية على أيدي بني وطنه، عندما قبض عليه الثوار هاربا قرب الحدود السويسرية العام 1945.
ومن بشاعة مقتله كتب بنجامين سولوي مقالا بعنوان «هل أسهم مصير موسوليني البشع في انتحار هتلر» (4) في مجلة السياسة الخارجية (FP)، قال فيه على لسان ديفيد كرتسر مؤلف كتاب «البابا وموسوليني»: «تصوروا دهشة الثوار عندما عثروا عليه! لم تكن لديهم أي فكرة ماذا يفعلون به فقرروا إعدامه رميا بالرصاص مع مرافقيه، ثم سلموا الجثث للجماهير الغاضبة التي مثلت بهم، ثم تم تعليقهم من أرجلهم في ميدان لوراتو في وسط ميلانو».

بعد مقتل موسوليني وانهيار الحكومة الفاشية قبض على غراتسياني وتمت محاكمته وإذلاله، وكبل بالحديد كما فعل مع عمر المختار. أهين ونعت بالأضحوكة، كما وصفه الملحق العسكري الألماني في روما، حيث كتب لحكومته يقول: «إن غراتسياني أقام شهرته في ليبيا والحبشة في معارك مع مقاومة شعبية سيئة التسليح لكنها غنية في شجاعتها، لكن هذا الدعي حين وضع في مواجهة جيش نظامي مسلح تحول من أسطورة إلى أضحوكة، واختفى معه عن المسرح مقتولين أو مأسورين رفقاؤه الذين وصلوا مثله إلى أعلى الرتب بسهولة في ميادين استعمارية ضد المدنيين الأبرياء» (2)!

ذهب موسوليني وجلادوه إلى مزبلة التاريخ كما هو حال كل طاغية جبار متكبر عبر العصور. وفي المقابل يعيش عمر المختار بطلا في قلوب الملايين من عرب وعجم، وشهد بشجاعته وشهامته الأعداء قبل الأصدقاء. وهو حي عند ربه يرزق، ولا نزكي على الله أحدا.

قال عنه غراتسياني عدوه اللدود قبل محكمته الصورية وشنقه في 16 سبتمبر 1931:
 «كان جبينه وضاء كأن هالة من نور تحيط به، فارتعش قلبي من جلالة الموقف، أنا الذي خاض المعارك والحروب العالمية، والصحراوية، ولقبت بأسد الصحراء، ورغم هذا فقط كانت شفتاي ترتعشان ولم أستطع أن أنبس بحرف واحد».(5)

لعلنا أطنبنا في الحديث عن تاريخ الطغاة لما فيه من دروس وعبر، ولأن الكثير لا يعلم عنهم شيئا إلا قبيح أفعالهم، بينما عمر المختار غني عن التعريف ذاع صيته وسيرته الطيبة في شتى بقاع الأرض.

من أقواله بيض الله وجهه (5):
«اللهم اجعل موتي في سبيل الله هذه القضية المباركة».
«لا أغادر هذا الوطن حتى ألاقي وجه ربي، والموت أقرب إلي من كل شيء، فإني أترقبه بالدقيقة».
«لن أبرح هذه البقعة حتى يأتي رسل ربي، وإن ثواب الحج لا يفوق ثواب دفاعنا عن الوطن والدين والعقيدة».
سئل الشارف الغرياني عن ملابس عمر المختار في السجن فأجاب (5):
عليه ثياب لو تقاس جميعها.... بفلس لكان الفلس منهن أكثرا
وفيهن نفس لو تقاس ببعضها.. نفوس الورى كانت أجل وأكبرا

رثاه أمير الشعراء أحمد شوقي بقصيدة طويله (6) اخترنا منها:

خيرت فاخترت المبيت على الطوى  ***  لم تبن جاها أو تلم ثراء
إن البطولة أن تموت من الظما       ***  ليس البطولة أن تعب الماء
إفريقيا مهد الأسود ولحدها           ***   ضجت عليك أراجلا ونساء      
والمسلمون على اختلاف ديارهم     ***   لا يملكون مع المصاب عزاء
والجاهلية من وراء قبورهم          ***   يبكون زيد الخيل والفلحاء    
في ذمة الله الكريم وحفظه            ***    جسد ببرقة وسد الصحراء