Atwasat

لماذا تركت هولندا إلى ليبيا؟

وفاء البوعيسى الخميس 24 أكتوبر 2019, 05:21 مساء
وفاء البوعيسى

سؤال وجهه لي أصدقائي الهولنديون قبل حتى الليبيين والعرب.

يحتاج الجواب لتمهيد يتناول سبب خروجي من البلاد.

كان السبب رواية انتقدت فيها جميع السلطات. وجدتني أمام جبهات مفتوحة كل واحدة تريد مني تنازلاً ما. العائلة تريد نسيان الكتابة واحترام التقاليد. النظام يريد أن أكون من حريمه الثقافي وأكتب أفكار الزعيم الأخرق، الأوقاف تريد معاقبتي وتكفيري.

عندما سقط النظام أردت أن أكون جزءاً من التغيير، لكن اشتعلت الحرب والمنافذ أُغلقت، وحدث أن بدأت أشق طريقي في مجال الكتابة النقدية لمواقع هولندية وأعمل بمنظمة حقوقية في لاهاي قرابة ثلاث سنوات، وأزعم أنني فعلت من هناك لليبيا ما كان صعباً فعله من داخلها. ثم ظهر ماكس في حياتي، صار يلح علي لأخذ الجنسية والزواج والإنجاب.

لاحقاً توقفت مشاريع دعم الربيع الليبي الهولندية، التفتُ حولي أبحث عن عمل أحبه فلم أجد. واجهت مهناً قاسية لا تناسبني البتة ولا تشبع تطلعاتي، طلبت معادلة شهادة الماجستير فرفضت البلدية لأسباب كثيرة، طلبت الحصول على مستوى عالٍ جداً من اللغة رفضت، تنازلت وطلبت البدأ بدراسة علوم أخرى كعلم المكتبات البرمجة... إلخ لأعمل بها في الخليج أو أميركا فرفضت، ما يعني أنه يجب عمل ما تفرضه البلدية أو أتعرض لعقوبات قد تفضي لتشردي فعملت بها مرغمة وبدأت أمرض في كتفي، أنفي، يديّ.

كان رفض البلدية المتواصل يدخل في سياسة ادخاري للمهن التي تحتاجها الشركات الرأسمالية المتوحشة، إنها تحتاجني كماكينة شغل تدفع الضرائب وتعيش إكراهات الغريزة في بيت دافئ على ضفة نهر جميل. وهذه ليست حياتي، حياتي في الاتصال بالناس، بملاحقة القصص والبؤس والفقر والإرهاب والسفر لتجميع المراجع، ولقاء الكتاب والذهاب للمعارض.

جربت الكلام والكتابة والشكوى والنقاش مع البلدية، ومع المثقفين بلا جدوى. بالعكس أجهدت نفسي بلا طائل. ولست وحدي من يشعر بتبديد الوقت والطاقة، حتى النخب الهولندية المقهورة مثلي والناقدة للسياسة الهولندية البرغماتية والعنصرية وحزمة الضرائب وخطط التقشف المفروضة تشتكي التسويف والبيروقراطية القاهرة للإنسان وكرامته.

بعد وفاة ماكس تعرضت لهزة نفسية كان يجب الخروج منها بأي ثمن. جاءتني صديقة بعرض عمل لدى شركة للعناية بكبار السن، ولم تكن تدري أنها قد وضعتني على درب العودة للببيا.

كان عملي تقديم الخدمات التي يحتاجونها ومراقبة آداء تلك الخدمات لهم، معظمهم مهاجرون ومن مستعمرات هولندا السابقة. وبحكم طبيعتي المرحة والاجتماعية دخلت قلوب الكثيرين، فكلموني عن استخدام هولندا لهم حد الاستنزاف، كلهم تقريبًا عملوا بنفس الأعمال التي أُجبرت عليها وانتهوا بمشاكل صحية مزمنة في الكتف، الظهر، اليدين، البصر، فعرفت أنني لو بقيت أكثر فسأنتهي لنفس المصير. لا أستمتع بشبابي ولا أرتاح في شيخوختي، اقضي حياتي بين الأطباء والمستشفيات، وقد عرفت الكثيرين وقد فكروا بالانتحار وطلب القتل الرحيم لكنهم لم ينالوه.

قررت اختصار الموضوع على نفسي وحفظ ما تبقى لي من كرامة وصحة بعد صراع مر مع أحقر بلدية بالعالم (بلدية روتردام) التي وصلت معها للشكاوى المدنية، وقد خسرتها بسبب حزمة القوانين المعقدة التي تحميها.

وأصارحكم بأمرين؛
* دخلت علاقة جادة مع رجل هولندي مثقف وتعرفت على عائلته وأردت جادة البدء معه من جديد لكننا اختلفنا. هو يميني وأنا يسارية هو ممن لا يتحمسون للأجانب وأنا امرأة أممية تجاوزت الهولندي والليبي لأصل للإنسان الكوني الواحد، فلم نستمر. افترقنا بمحبة واحترام مع تواصل فاتر.
* ساهمت قليلاً في تعميق مشكلتي، بمعنى تكاسلت من ناحية وفقدت الرغبة في تطوير نفسي والاقتراض من أجل الحصول على شهادة هولندية عليا، فالفائدة عالية وسنوات السداد قد تستغرق سنوات وقلقت من رفض سوق العمل لي بسبب جشع أرباب العمل بقبول صغار السن والهولنديين أكثر من الفئات الأخرى. كما أني بدأت أفقد الدافع للتغير والرغبة بالمحاولة ومقاومة البلدية في خططها الجاهزة لأمثالي. فتركت نفسي للسأم والاستسلام

وعودة للمقدمة، فقد بدأت ألاحظ أن مبررات وجودي بهولندا انتهت، أهلي ابتلعوا اعتراضهم وأيقنوا أنني لن أتغير. القذافي مات وارتحنا منه. الإسلام السياسي مكروه ومدان، بل إن الليبيين هم الشعب الوحيد بالمنطقة الذي منح الإسلاميين أقل أصوات في الانتخابات فقرروا الانتقام منه، وها هو مستمر برفضهم، كما أن الطيف الليبي بدأ يظهر بوضوح في سمائنا الملبدة.. فلماذا لا أعود وألحق بقطار الثورة والتغيير من جديد؟

أنا هنا الآن بعد تجربة ثرية ومهمة منحتني فضائل ومزايا لا أنكرها مع شعب أحببته واحترمته لأنه أكرمني وأحسن إلي، وهو شعب يحب الخير للجميع وسأظل أتذكر أفضاله علي ما حييت.