Atwasat

يوم غير عادي

جمعة بوكليب الأربعاء 23 أكتوبر 2019, 02:32 مساء
جمعة بوكليب

يوم أحد غير عادي، بلله مطر ليلي خريفي، في انتظارك، صباحا. على غير عادتك، في أيام الآحاد، تغادر بيتك، في ساعة مبكرة، مرفوقا بصمتك، وترقبك، وجمر سيجارتك، باتجاه محطة القطارات، على أمل أن تستقل قطار العاشرة والنصف، القاصد محطة قطارات لندن- واترلو.

هناك، في تلك البقعة من لندن، سوف تغادر القطار والمحطة، مشيا على قدميك، قاطعا مسافة الطريق إلى «رويال هول فيستفال»، في ساوث بنك، حيث المبنى الذي سيحتضن في ردهات طابقه السادس، الشاعر أدونيس، قادما من باريس، محملا بباقات قصائده، ومعتمرا قبعته السوداء، وشاله الأحمر يلتف بعنقه، ليكون ضيفا مشاركا في أسبوع الشعر العالمي بلندن. وسيكون حاضرا، أيضا، الشاعر والمترجم الصديق خالد مطاوع، قادما من الضفة الأخرى للمحيط الأطلنطي، للمشاركة بقراءة بعض قصائده الإنجليزية، وسيعقب ذلك نقاش مفتوح مع جمهور الحاضرين، الذين ستكون أنت، القادم من وريستر بارك، جنوب غرب لندن، من ضمنهم، صحبة صديقك الناشر غسان الفرجاني، الذي ستجده في انتظارك.

أنت كما أنت، في أيام الأسبوع الأخرى، ومنذ شهور عديدة، لم يعد يعنيك تبرم الطقس، ولا ماذا سيحمل النهار القادم في جرابه من مفاجآت. كل ما يهمك أن تطفو، كقارب كهل، على سطح موجه، وتتركه يأخذك إلى حيث يريد، شرط أن تعود، إلى صمت مرفئك، قطعة واحدة، غير منقوصة.

الليلة السابقة، قضيتها، ساهرا، صحبة الكاتب المجري – الألماني آرثر كوستلر، وهو يسرد حكاية نيكولاي سليمانوف روباتشوف الذي قدم حياته للحزب، وخاض حربا، وسافر وناضل، وانتهى به الأمر سجينا، في زنزانة انفرادية، يقضي نهاره ممتدا على السرير، أو متمشيا في زنزانته بين بابها الحديدي، ونافذتها المطلة على الساحة، مدخنا سجائره، ومستعيدا في برودة الصمت، تفاصيل حياته التي ضحى بها في خدمة الحزب، وسلبها منه الحزب نهائيا. «ظلام عند الظهيرة»، رواية لا توصي أحدا بقراءتها ليلا، تحت سقف بيت مخثر الأنفاس، عطن الهواء، وبين جدران مصمتة لغرفة، يسكنها صمت ووحشة.

في اليوم السابق لذلك، ذهبت، وحدك، إلى دار عرض سينمائية في ويمبلدون. كان الوقت ظهرا، مدثرا بدفء شمس خجولة. هناك، شاهدت شريطا سينمائيا أمريكيا بعنوان «الجوكر». بطل الفيلم اسمه آرثر أيضا. هل هي الصدفة؟ أرثر المهرج المهروس في رحى مجتمع رأسمالي لا يرحم، وآرثر الكاتب الذي يقضي شبابه في دهاليز السياسة والأحزاب، والهرب من بلد إلى بلد، والسجون، وينتهي منتحرا في لندن مع زوجته!

أنت، لم تعد كما أنت. صرت شبحا، تخوض بقدمين، في شوارع مدينة لا تعرف كيف تنطق، بعد ثلاثين عاما، اسمك، أو حتى تتذكر ملامح وجهك. حين وصلتها، ذات شتاء قارس، قادما من طرابلس، ووقفت في مطارها متلفتا، بحثا بين الوجوه عن وجه يبتسم لك، ويقول لك مرحبا، لم تجد غير اللامبالاة. منذ ذلك اليوم، بدأت تتذوق طعما مختلفا لوجودك، ولحياتك، غير مستساغ، ولا سهل النسيان. ربما لذلك، تجاهلته في البداية، وظننته حالة استثنائية مصيرها إلى زوال. لكن بمرور الوقت، ازداد الطعم مرارة في الفم، وحزنا في القلب، ولم يكن أمامك سوى أن تتعود عليه، كما تعلمت، وتعودت، مجبرا، مرافقة أشياء كثيرة، وأناس كثيرين، وأحوال غريبة، في أماكن عشت بها مضطرا، ومقيدا بسلاسل الوقت. هناك في تلك الأماكن الرطبة، الخربة، قضيت وقتا طويلا مفكرا في معنى مقولة سنتياجو، بطل أرنست همنغواي، في رواية العجوز والبحر: «قد يتحطم الإنسان لكنه لا يهزم». روباتشوف، بطل رواية كوستلر، «ظلام عند الظهيرة» تحطم أولا، وهزم أخيرا!

أمامك، على منصة صغيرة، أدونيس، يجلس على كرسي، بلاستيكي بلون أسود، به ناقل صوت مشدود إلى مسنده الأيسر. إلى يمنيه جلس خالد مطاوع، وإلى يمين خالد جلست سيدة ستدير الجلسة. أنت جالس في الصف الأول. والقاعة، وراءك، كاملة الحضور، وساكنة. أنت، بعينين مترقبتين، ترى أدونيس أمامك، بكامل حضوره، وبجانبه خالد مطاوع مبتسما، وسيدة لا تعرفها. خلف أدونيس جدار زجاجي، من خلاله يمكنك أن ترى عين لندن، وكأنها تراقب الحاضرين. وأن ترصد أحوال سماء، قريبة، مغيمة. ومن اليسير على عينيك التعرف إلى أبراج الكنيستين الواقعتين قرب البرلمان. وبإمكانك سماع نبضات قلبك تدق بإيقاع منتظم، داخل دوران عجلة نهار أحد، غير عادي، يلتف بجناحين على لندن: المدينة التي جئتها هاربا بحياتك، وبحثا عنها، ووصلها قبلك آرثر كوستلر، هربا من هول مصير بطله روباتشوف، فمات بها منتحرا.