Atwasat

أحلام الخلافة بين «داعش» وإردوغان

سالم العوكلي الثلاثاء 22 أكتوبر 2019, 03:05 مساء
سالم العوكلي

قوات «سوريا الديمقراطية» هي أفضل قوة قاتلت تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) بريًا وفي معاقله في سورية، وهي القوة الوحيدة التي أسرت الآلاف من التنظيم ومن جميع أنحاء العالم بمن فيهم قادة معروفون، ويشكل أكراد سورية جزءًا من الحلم الكردي القديم بدولة تجمع هذا الكيان الكبير الذي له تاريخه ولغته وهويته، وأمام وقوف العالم ضد فكرة الدولة الكردية أصبح أقصى أحلامهم التمتع بنوع من الحكم الذاتي في ظل الدول التي يعيشون فيها، وهذا حق إنساني تحلم به أي قومية أو أقلية تعيش في نطاق أمة أخرى، خصوصًا حين تكون ضمن أمم لا تتمتع بنظام ديمقراطي يضمن حقوق المواطنة والتعدد العرقي أو الطائفي.

يهدف تنظم قوات «سوريا الديمقراطية» الذي يتكون من أكراد وعرب وسريان وآشور وتركمان وشيشان إلى تحقيق هدف «سورية علمانية فيدرالية»، وبالرغم أنه لم يسجل أي اعتداء من أكراد سورية على تركيا، وبرغم عدم وجود حزب العمل الكردستاني المصنف إرهابيًا في الشمال الشرقي السوري، إلا أن النظام التركي يصر على غزو سورية بحجة توفير منطقة آمنة وعازلة بين تركيا وأكراد سورية، ورغم إدانة العالم كله تقريبًا لهذا الاعتداء إلا أن إردوغان الذي عزز معاهدات الشراكة بين تركيا والكيان الصهيوني يصر على هذه الحرب الظالمة التي تتسبب في معاناة إضافية للسوريين من قتل للمدنيين ونزوح جديد بعشرات الآلاف، ملوحًا بورقة إنسانية تتعلق بعودة اللاجئين السوريين في تركيا إلى تلك المنطقة الآمنة كما يفترض، أولئك اللاجئون الذين تاجر بهم كورقة اقتصادية وسياسية، فاستثمرهم للحصول على المليارات من الدول الأوروبية التي يهددها كل مرة بإطلاق المهاجرين صوب شواطئها وكأنهم جراد في حوزته.

لا أجد تبريرًا لهذه الحرب سوى الانتقام التركي من قوات «سوريا الديمقراطية» التي نكلت بحلفاء النظام التركي من تنظيم الدولة الإسلامية وفصائل تابعة لتنظيم «القاعدة»، وهؤلاء الآلاف من الأجانب الداعشيين في سجون (قسد) مروا بمطارات وفنادق واستراحات ومواصلات الحكومة التركية ليصلوا إلى سورية حين كان هدف إردوغان القضاء على النظام السوري ومحاربة الفصائل الأخرى التابعة لدول خليجية، وهو الدعم الذي كشفه بالوثائق صحفيون أتراك يقبعون الآن في السجون أو المنافي، لتصبح سورية محجة إرهابيي العالم وبوابتهم إليها المنافذ التركية، ولعل ما كشفت عنه روسيا بالصور من أرتال الشاحنات التي تنقل النفط بين سورية والعراق من جهة وبين تركيا من جهة أخرى بسعر بخس يؤكد هذه العلاقة الوثيقة وهذا الدعم المالي غير المباشر لهذا التنظيم الذي سيطر على مناطق واسعة في العراق وسورية.

يلتقي إردوغان وعقيدة حزبه الإخواني مع تنظيم الدولة الإسلامية في مبدأ رئيسي يجمع بينهما وهو الحلم بالخلافة أو أستاذية العالم، ولا مانع لديه أن يضع يده مع هذا التنظيم، الذي قد يشكل خطرًا على تركيا في المستقبل لو حصل أي سوء تفاهم، ولكن تناغمه الأيديولوجي معه وحلمه الكبير بقيادة إمبراطورية إسلامية يجعله يعمى عن هذا الخطر، خصوصًا مع اقتراب العام 2023 الذي تنتهي فيه رسميًا معاهد لوزان الموقعة سنة 1923 التي ألزمت الإمبراطورية العثمانية بالتنازل عن مساحات كبيرة كانت تابعة لها وتقليص حيزها الجغرافي، التي فرضت فيها الدول المنتصرة في الحرب العالمية الأولى إلغاء الخلافة ومنع تركيا من التنقيب عن البترول واعتبار مضيق البوسفور ممرًا دوليًا، وهي شروط المنتصر على المهزوم التي عادة تكون قاسية، وتشبه شروط الدول المنتصرة على ألمانيا في الحرب نفسها والتي أدت قسوتها إلى ظهور النازية وشخصية هتلر، وتسببت في النهاية في حرب أكثر كارثية من الحرب الأولى راح ضحيتها عشرات الملايين ودمرت مدنًا أوروبية كبيرة بالكامل، والفارق أن هتلر قام بردة فعله الانتقامية بعد 15 سنة فقط، وإردوغان بدأت ردة فعله بعد قرن ومع اقتراب نهاية الاتفاقية التي قوضت الإمبراطورية، والفارق الآخر أن الرايخ التابع لإردوغان هم الدواعش، وتأتي هذه الحروب التي يخوضها إردوغان في سورية وفي العراق وفي ليبيا وتدخلاته في مناطق إمبراطوريته السابقة كجزء من ردة الفعل هذه، ومن الأوهام التي داعبت هتلر وحزبه النازي وأدت في النهاية إلى مصير كارثي له ولشعبه، ولا أتمنى هذا المصير للشعب التركي، لكن تسييس الدين والتلاعب بالمشاعر لا يختلف عن تسييس العرق أو القومية، وكلاهما مآله كارثي على من يحرك أتون الكراهية والتعصب. لذلك فحرب إردوغان وحزبه الورع (ولن أقول تركيا) على أكراد سورية وعدم توجسه من تحرير الآلاف من الدواعش من سجون قسد لا يختلف عن دعمه المعلن لجماعات إرهابية في ليبيا تقاتل الجيش الوطني وهو يعرف أن من تصلهم أسلحته وذخائره بعضهم مطلوب دوليًا في قوائم الإرهاب.

لقد قام إردوغان بجولة مكوكية مبكرة في دول الربيع العربي (مصر وتونس وليبيا) عندما سيطر فيها جماعة الإسلام السياسي على مفاصل هذه الدول شادًا على أيديهم وداعيًا إياهم لأن يجربوا نسخته من العلمانية الهجين بين التعصب القومي المحلي والتعصب الديني الإقليمي.

ولم يكن غريبًا أن يتحدث إردوغان عن معاهدة لوزان الآيلة للنهاية، في لقاءاته مع المخاتير الأتراك، باعتبارهم ما تبقى من فلكلور الخلافة، عن اهتمامه بتخليص تركيا من مترتبات تلك الاتفاقية واستعادة الحقوق التي سلبتها دول الحلفاء منها، وهذه الحروب التي يخوضها أو يدعمها في مناطق الإمبراطورية السابقة، والتنقيب المخالف للقانون الدولي عن النفط والغاز في المياه الدولية، وحفر قناة جديدة تربط بين البحرين الأسود ومرمرة تمهيدًا للبدء في تحصيل الرسوم من السفن المارة، جزء مما يسميه استعادة الحقوق .

حين انتكس الحلم الإمبراطوري القديم وتقلصت جغرافيا الخلافة دفع الأرمن الثمن باهظًا بحرب إبادة بحجة أنهم شكلوا خطرًا على أمن تركيا القومي وكانوا السبب في الهزيمة، ومع انتكاس حلم إردوغان بإمبراطورية جديدة أخاف أن يدفع الأكراد الثمن، هذه المرة، بحجة أمن تركيا القومي بعد أكثر من قرن من مذبحة الأرمن.