Atwasat

السياج الدوغمائي (1- 2)

أحمد معيوف الأحد 20 أكتوبر 2019, 04:04 مساء
أحمد معيوف

«الدوغمائية»، كلمة يونانية تعني الانحياز المطلق لفكرة دون النظر أوالتفكير فيها. بصورة أكثر وضوح، تعني الجمود والانغلاق الفكري المتزمت، والإيمان المطلق بامتلاك الحقيقة، وإلغاء تفكير كل مخالف.

قاموس كامبريدج يعرف الدوغمائية «Dogma» بأنها عقيدة أو مجموعة عقائد «set of beliefs » يقبلها الإنسان دون أذنى شك فيها «without any doubts». وقد يعني أيضًا «تعاليم» كما ورد استخدامه في اللاهوت الكاثوليكي، وارتبط بالإلهام الذي زعمته الكنيسة لنفسها، ويعني «المبدأ الذي ينسب إليه الصحة المطلقة»، الذي أصدرت بموجبه فكرة عصمة البابا «Papal infallibility» العام 1870م في زمن البابا بيوس التاسع، باعتبار البابا ملهمًا من عند الله وبالتالي لا يجوز أن يخطئ. وعبر قبل ذلك الفنان الإيطالي كارلو ساراسيني على هذا المفهوم، قبل أن يصدر عن الكنيسة، في لوحته التي رسم فيها الروح القدس يحل على جسد غريغوريس الأول.

وقد اُستخدم هذا المطلح حديثًا في السياسة وفي علم الاجتماع لوصف المذاهب الفكرية المتعصبة، التي تجافي العقل في تصوراتها، وتعتقد في قدسية هذه التصورات، وتعتبرها حقائق مطلقة. بل تتجاوز الأمر وتنسب الانحراف لكل من يخرج عن قناعاتها أو يرفضها.

أول من استخدم عبارة «السياج الدغمائي»، على الأقل في نصها العربي، كان المفكر الجزائري محمد أركون في كتابه «من الاجتهاد إلى نقد العقل الإسلامي» والذي تناول فيه إشكالية تفسير معنى «كلالة» في الآية 176 من سورة النساء، واستنتج من خلاله أن المصدر الأساسي للفقه ليس القرآن وإنما التفسير، حسب ما يرى.

إذًا، السياج الدغمائي لا يرتبط شرطًا بالدين، فالولاء المطلق والتعصب الأعمى والانغلاق الفكري والثقافي، بل وحتى النفسي سمة بشرية لا يختلف فيها المؤمن عن الملحد، والمثقف عن محدود الثقافة، والمتعلم عن الأمي، والتاريخ شاهد على هذه السمة الإنسانية. ومن تجربتي الشخصية، كونت «سياجي الدغمائي» حول تعلم اللغة، فقد تسنى لي أن أعمل وأعيش في خمس دول، وأُتيحت لي الفرصة أن أتعلم أربع لغات، بالإضافة إلى الإنجليزية، لكن لأني أقنعت نفسي بأن عقلي غير مؤهل لتعلم اللغات الأجنبية، النتيجة أني فوت عن نفسي فرص ثمينة لزيادة مكاسبي واتقان لغات متعددة، لقد أصبحت سجين قناعة خاطئة، اكتشفتها بعد أن ضيعت عن نفسي تلك الفرص الذهبية.

ما دفعني لهذا المقال هو اللقاء الذي أجراه الإعلامي أفشان رتانسي «Afshin Rattansi» على قناة RT في برنامجه « going underground» مع المناطق باسم النظام الليبي أثناء الثورة السيد موسى إبراهيم القذافي في العام 2011.

يقول موسى إبراهيم في هذا الحوار إن سبب تدخل الناتو في ليبيا هو مشروع القذافي الذي كان يسعى فيه إلى أفريقيا موحدة ومستقلة سياسيًا وعسكريًا عن هيمنة الغرب الإمبريالي، وكان يسعى إلى توحيد القارة، وخلق مصرف مركزي أفريقي وعملة أفريقية ذهبية تحرر أفريقيا من سلطة الدولار. كما قال إن اتهام النظام الليبي الذي استغله الغرب لضربها إما مختلق أو مبالغ فيه.

يقول موسى إبراهيم، إن القذافي لم يكن حالمًا بخصوص مشروعه الأفريقي، بل كان جادًا وعمل باجتهاد على هذا المشروع، لهذا تمت محاربته. وهنا لا أدري ماذا يعني أن يكون جادًا في مشروع كهذا. فشعوب القارة الأفريقية يتقاذفها الجهل والفقر، ويسود أنظمتها الاستبداد، وفي ظل ضعف مؤسساتها بسبب استبداد أنظمتها يتمتع بثرواتها ويسيطر عليها الاستثمار الأجنبي. فطبيعة الأنظمة الأفريقية بما فيها ليبيا لا تسمح بمجرد الحلم بهكذا مشروع، ناهيك على أن تحوله لمشروع تعمل على تحقيقه.

والحال في ليبيا، كما أشرت، لا يختلف، وهنا أنقل شهادة رحالة روسي معاصر يدعى ألكسندر سيمو، قدر له أن يجوب معظم بلاد العالم، وتسنى له زيارة ليبيا في العام 2002.

جاء على لسان «الرفيق» سيمو: أعترف، خفت من السفر إلى ليبيا، إذ أن تخيل الشيطان مرعب جدًا. الحصول على تأشيرة كان صعبًا جدًا، كما أن اسم ليبيا الكامل «الجماهيرية العربية الليبية الشعبية الاشتراكية» حرك في داخلي ذكريات قديمة مخيفة، عشر سنوات دون اشتراكية، وفجأة، هي في الجوار من جديد.

أول شعور بعد العودة من الجمارك التونسية أنني أحسست وكأني في ساحة بناء، بل يراودني شعور بأنني لا أسير في الطريق الصحيح ولكن لا يمكن فعل شيء. الكل يسير و أنا أسير. أخاديد تحيط بالجوار، جبال من النفايات وبقايا مواد البناء، ومع ذلك لا يلاحظ هنا شغل أحد.