Atwasat

نقد على الهوية (2-2)

عمر أبو القاسم الككلي الأحد 20 أكتوبر 2019, 12:06 مساء
عمر أبو القاسم الككلي

نقطة أخرى وردت في المقال موضوع النقاش أرى ضرورة مناقشتها وهي قوله "ما سبق يعطيني انطباعا بأن طرابيشي لا يحمل ودًا، أو احترمًا، للإسلام وأهله". أولا نحن نرحب بقول الكاتب "يعطيني انطباعا"، فهو هنا لم يكن جازما. لكنني سأتجاوز مسألة (عدم احترام طرابيشي للإسلام وأهله) في هذا الانطباع وأقتصر على مسألة الود. فالود عاطفة فيها محاباة. والمحاباة ليست أمرا محمودا في النقد الموضوعي والبحوث العلمية. الجابري نفسه لا نجد في ما اطلعنا عليه من كتاباته "ودا للإسلام". لأنه يقوم بنقد من وجهة نظر الإبستمولوجيا epistemology (التي نفضل ترجمتها: أصول المعرفة، تأثرا بالمفكر الألسني التونسي عبد السلام المسدي الذي يقترح ترجمتها بـ "الأصولية") والإبستمولوجيا تتضمن الصرامة وليس الود أو التعاطف أو المحاباة. أنا أرى أنه في البحوث والدراسات المتعلقة بالفكر والنقد الفكري يكون الود في اختيار الموضوع. فأنا قد أتعاطف مع كاتب ما لأنني أرى أنه لم ينل ما يستحقه من النقد وتسليط الأضواء عليه. لكنني حين أشرع في العملية النقدية يتعطل هذا الود وتصبح الموضوعية، إذا كنت ناقدا جادا مسؤولا، هي المحك والحَكم والدليل (أخشى هنا أن يصفني محمد خليفة بأنني أؤله الموضوعية!). وفي هذا الصدد يقول د. أحمد محمود صبحي* في مقدمة كتابه عن "الزيدية" التي هي فرقة كلامية شيعية "وانتمائي المذهبي إلى إحدى هذه الفرق – أعني أهل السنة- لم يكن بحال ما سبيلا إلى التحامل على فرق مخالفة لمذهبي [...] ومن ثم سعيت أن تكون النزاهة – سواء في العرض أو التعقيب – مقصدي" (ص 9).

نقطة ثانية أود ماقشتها أيضا، هي اعتباره الماركسية "عقيدة" حين يقرر أن الأثر الآيديولوجي "يمكن أن يحدثه الدين الإسلامي، والدين المسيحي، ويمكن أن تحدثه الماركسية باعتبارها عقيدة نظيرة و إن لم تُسمَّ دينًا". فالماركسية ليست عقيدة بأي معنى من المعاني، بما في ذلك المعنى المجازي. الماركسية فلسفة مثلها مثل الأرسطية والأفلاطونية والديكارتية والكانتية والخلدونية... إلخ لها وجهة نظر وموقف من القضايا التي تشغل العقل والضمير الإنسانيين وعالجتها الفلسفات السابقة، وتتضمن منهجا تحليليا تحلل على أساسه هذه المسائل. الفلسفات "قناعات" وليست "عقائد إيمانية". ومن هنا فالفلسفات مرنة وقابلة للتطوير والتعديل والمراجعة والتنقيح، حتى من قبل الفيلسوف نفسه الذي يمكن أن يتراجع في كبره عن بعض الأطروحات التي أدلى بها في شبابه أو يعدلها. وهذا أمر غير ممكن مع العقائد. وفي هذا السياق (سياق مبدأ المراجعة في الفلسفات، وفي الفلسفة الماركسية تحديدا، التي يعدها محمد خليفة عقيدة) يمكننا إيراد شاهد، قد لا يكون كافيا، ولكنه دال، من أحد المنظرين الماركسيين العرب. يقول سلامة كيلة في كتابه "من هيجل إلى ماركس: حول التصور المادي للتاريخ"**: "أنا لا أشير هنا إلى الماركسية الرائجة، بل إلى الماركسية المتجددة استنادا إلى ‘‘روح‘‘ الماركسية الأصلية، أي إلى منهجيتها. وبالتالي فنحن إزاء إعادة إنتاج لها انطلاقا من خبراتها السابقة (وبالتالي مشكلاتها) وأيضا انطلاقا من الظروف الواقعية" (ص 386). ويقول "... مفهوم ماركس للشرق ‘‘وهمي‘‘، ومتأثر بالدراسات الاستشراقية" (ص 393). مثل هذا الكلام يعتبر كفرا وخروجا عن الملة في العقائد. لكنه مشروع في الفلسفات (= القناعات). أنا أتفق مع محمد خليفة أن ثمة تعصبا فكريا، لدى بعض أتباع أية فلسفة، وهو موجود في الماركسية، وهذا التعصب، في أية فلسفة، هو رؤية وثوقية تقترب من الإيمان الوثوقي الديني. يطلق على هذا التوجه صفة "الوثوقية" أو "القطعية"، وبالتعبير السائد "الدوغما". والدوغما هنا رديفة لمصطلح "التزمت" أو "التشدد" الذي يطلق على التوجه الديني المتعصب. ربما ما يجعل البعض يصف الماركسية بأنها دين أو عقيدة، كون الماركسية، مثل بعض الأديان، تسعى إلى تغيير العالم، وليس إلى مجرد تحليله، مثل الفلسفات الأخرى، كما يصرح ماركس.

الواقع أن ثمة نقاطا أخرى في مقال محمد خليفة "فضاء النقد" تحتاج إلى نقاش، لكننا اكتفينا بمناقشة ما ارتأينا أنه أهم هذه النقاط. ولم يكن قصدنا الدفاع عن شخص ضد آخر، وأنما تقصدنا معالجة بعض الأفكار المطروحة من زاوية معرفية.

* د. أحمد محمود صبحي. في علم الكلام: دراسية فلسفية لآراء الفرق الإسلامية في أصول الدين. 3 الزيدية. دار النهضة العربية للطباعة والنشر. بيروت. ط3. 1991

** سلامة كيلة. من هيجل إلى ماركس: حول التصور المادي للتاريخ. دار المرايا للإنتاج الثقافي. القاهرة. ط2. 2018.