Atwasat

الذكرى الخمسون لبداية مسلسل الفشل!

عبدالقادر البرعصي الأربعاء 16 أكتوبر 2019, 05:46 مساء
عبدالقادر البرعصي

نصف قرن مضى من عمر أمة منذ انطلاق سلسلة الفشل غير المبرر والفساد غير المسبوق. كيف لبلد غني شاسع مترامي الأطراف، حباه الله بكل مقومات الرقي والازدهار أن يصبح مجزءا متشرذما تتقاذفه الأمواج، لا وزن له على الساحة الدولية حتى بالمقارنة بأفقر دول أفريقيا وآسيا والعالم أجمع؟!

الخطأ الفادح وتسامح الملك
بدأ المسلسل في 1 سبتمبر 1969 بفشل ذريع للأجهزة الأمنية بالمملكة الليبية في أداء واجبها لحماية الدولة الصاعدة والتصدي للمؤامرة والانقلاب على الحكومة الشرعية. ومما زاد الطين بلة عدم تنبه الملك، رحمه الله، بسبب تسامحه ورغبته المعلنة في التنازل عن الحكم، بأن الأمر لا يتعلق بحقه فقط بل بحق شعب بأكمله. إضافة إلى رغبته في حقن الدماء وعدم الاستعانة بدول أجنبية ضد أبناء الوطن، رغم وجود قاعدتي العدم البريطانية في طبرق والملاحة الأميركية (معيتيقة) في طرابلس.

بساطة الشعب
وفي غياب أي اعتراض يذكر من قبل أعضاء الحكومة والبرلمان وغيرهم، تقبل عامة الليبيين الانقلاب بالتأييد أو على الأقل عدم الاستنكار. ولعل ما أسهم في ذلك الحملة الإعلامية الشرسة التي شنها إعلام جمال عبدالناصر على المملكة والدولة الوليدة، مستغلا وجود القواعد الأجنبية، وذلك لتبرير هزيمة 1967 التي كانت في حد ذاتها عاملا أجج غضب الشعوب العربية على حكامها بما في ذلك ليبيا. مع أن وجود القواعد الأجنبية كان إجراء وقتيا تطلبته مرحلة بناء دولة وليدة لدواع أمنية ومادية صعبة، وكان قيد النقاش قبل الانقلاب مع الدول المعنية لإنهائه بعكس القواعد الأميركية الموجودة إلي اليوم في كثير من الدول الكبرى كبريطانيا وألمانيا وكوريا واليابان وغيرها.

غياب الوعي
وفي ضوء انسحاب الملك وغياب الوعي لم يتنبه أحد إلى خطورة الأمر، كونه اعتداء سافرا على السلطة الشرعية مخالفا للدين والأعراف الدولية. ولم يتوقف الأمر عند الأيام والأسابيع الأولى، بل استمر السبات إلى سنوات، تمكن خلالها القذافي من إحكام قبضته على زمام الأمور من خلال حملة ممنهجة للتخلص تدريجيا من كل فرد أو شريحة أو مؤسسة قد تشكل تهديدا له. وتم له ما أراد في فترة قياسية لا تتعدى السنوات العشر تقريبا.

من المفارقات العجيبة أنه بدأ المخطط بالتخلص من ذوي الرتب والمؤهلات بتهم التآمر وخيانة الثورة بالانقلابات العسكرية. وثنى بالأدباء والمفكرين تحت شعار الثورة الثقافية، التي غيب فيها عددا كبيرا لا يتسع المجال لذكره في هذه العجالة، أتذكر منهم جار حي معهد المعلمات وقتها بالبيضاء، الدكتور محمد المفتي، مع أنه من القلة في تخصصه الطبي، الذي كان البلد في أمس الحاجة إليه.

ثم جاء دور طلبة الجامعات في منتصف السبعينات وما يعرف بالثورة الطلابية، وكشر النظام عن أنيابه بالتصفيات الجسدية العلنية، وبث الرعب من خلال اللجان الثورية التي انتشرت كالسرطان مصداقا لمقولة «اللجان في كل مكان». ومن أخطر ما قام به عمليا هو تدمير الهيكل الإداري ومؤسسات الدولة والقانون، حيث أصبح جسم اللجان الثورية الموازي هو المسير الفعلي للجامعات والإدارات وحتى الثكنات العسكرية.

ثم قام بعد ذلك بتهميش الجيش كمؤسسة وتقطيع أوصاله خوفا من الانقلاب عليه، فتم تحويله إلى كتائب تابعة لأبنائه وأقربائه. ويشكل هذا الأخير خيانة سافرة للوطن، ومن تبعاته أنه بعد سقوط النظام أصبح الوطن في مهب الريح عرضة للأطماع الخارجية والداخلية، بعكس ما حدث في تونس مثلا، التي قام جيشها المتماسك بالسيطرة على الوضع ومنع انهيار كامل للدولة.

الانفراد بالمرمى وإضاعة الفرصة

بعد أن استتبت الأمور لمعمر وأبنائه كان بالإمكان استغلال المقدرات الضخمة للبلد، وتفرده بالقرار للإعمار والإصلاح وبناء دولة متحضرة على غرار دويلات الخليج، التي تأسست بعد الدولة الليبية بسنوات ولكنها تسبقها اليوم بمراحل.

وقد قيل لو أن معمر حقق لليبيين ما حققته حكومات الخليج ولم يحتقرهم ويتمادَ في إذلالهم لما نازعوه الحكم، حتى لو نصب نفسه ملكا بشكل رسمي وبكل شفافية ووضوح، بدلا من استخفافه بعقولهم بأكاذيبه المشهورة كحاجته إلى اقتراض ثمن خروف العيد، ومقولة أن السلطة والثروة والسلاح بيد الشعب!

ومن المصائب الكبرى التي ترتبت على اختزال الوطن في شخصية القائد الأوحد هي عدم المبالاة وتلاشي مفهوم الانتماء لدى المواطن. وهو بلا أدني شك أخطر ما اقترف في حق الوطن، الأمر الذي ما زلنا نعاني من تبعاته إلى يومنا هذا.