Atwasat

عام دراسي آخر

جمعة بوكليب الإثنين 14 أكتوبر 2019, 12:16 مساء
جمعة بوكليب

أنتهت العطلة المدرسية الصيفية، وأعلن العام الدراسي الجديد عن حضوره، في مدارس لندن. الشوارع الخالية من التلاميذ سرعان ما عمرت بالتلاميذ، من جديد، وقد أزدادت أعمارهم ستة أسابيع أخرى، وطالت قاماتهم قليلاً. منهم الفرحون بعودتهم إلى حياة التلمذة، وإلى رفاقهم وأصدقائهم، ومنهم الكارهون الذين تشعر أنهم يُدفعون دفعاً إلى العودة، وفي قلوبهم وعيونهم حسرات على انقضاء أيام الراحة والاستجمام، واللعب، بعيداً عن أجواء الواجبات المدرسية.

عودة المدارس إلى فتح أبوابها تعني عودة الازدحام إلى الحركة المرورية في الشوارع، وتزاحم التلاميذ في محطات وقوف الحافلات العامة، وعلى متنها. وضجيجهم وهم في طريقهم إلى المدارس ولدى العودة منها. ذلك الازدحام يشعرني، حقاً، بنهاية فصل الصيف، ودنو فصل الخريف. فلا أعرف هل أفرح أو أحزن. لكن عودة العام المدرسي، وعودة التلاميذ إلى الطفو على مياه نهر الحياة، يشعرني وكأن حياة غائبة قد عادت إلى الوجود، أو كأن الحياة عادت، فجأة، لزخرفها، و لتنوّعها، ولصخبها، من خلال طراوة ضحكات التلاميذ، من الجنسين، وفي لعبهم، ومناكفاتهم، وهم يذرعون الشوارع والأرصفة فرادى، وجماعات، في أزيائهم المدرسية الجديدة، المميزة، بقلوب طليقة النبضات والاحلام، وخالية من ثقل المسؤوليات، والهموم.

رؤية التلاميذ في طريقهم إلى المدارس والعودة منها، تثير في قلبي مزيجاً من مشاعر مختلفة. فهي من جهة، كمن يربت على كتفي، طلباً للفت انتباهي وأهتمامي، ومشيراً باصبعه إلى جهة ما، ناصحا بالنظر إلى ما تركتُ خلفي من حياة، علاها غبار الزمن، حتى تكاد تتلاشى في النسيان. فالتفتُ بقلبي، إلى أيام التلمذة، وأراني أخوض بقدمين صغيرتين في شوارع طرابلس، في طريقي إلى المدرسة، حاملاً في يدي حقيبة جلدية، وداخلا من باب الصباح إلى أول تعاريج النهار، بقلب طري، وبعينين كطيرين ، يطيران بحرّية ، محلقين في سماء مفتوحة على آفق فسيح. أسير بخطوات سريعة، أومتمهلة، وفقا لتصاريف المزاج، وأمامي الدنيا مشرعة الأبواب، والعالم وقد نفض عنه جسده غبار النوم والنعاس، وفتح نوافذه لتدخلها أشعة شمس لم تتلوث بعد، دافئة، وباعثة على البهجة والنشاط، فيغمرني فيض من اغتباط، وتناديني سهول الحنين، فأسير نحوها، مبتهجاً، مانحاً روحي فرصة الابتهاج في دفئها، وأريجها.

في السنوات الأخيرة، بدأت عودة العام الدراسي تثير في قلبي شيئاً من شجن وأسى، بمذاق مُرّ، وباحساس من خدعه الزمن، واستلب منه حياته، وأحلامه، وشبابه، وحاد به عن تحقيق طموحاته، حتى أنتهى به المطاف، وحيداً، منفيّاً، في أرض كهولته، بلا وطن يتوكأ على أحلامه، أوبلا وطن يكون ملجأ لكهولته، وفي مضارب لغة، أخرى، غريبة، وتحت سماء بعيدة، لاتشبه ما عرف من سموات. يعيش مستوحداً، وغارقا في لجج وتعاريج وقت زئبقي، ومتاعب تفاصيل العيش، وما يحدثه من ارباكات في نبض القلب، وما يسببه من ارتباكات لدى سيره في تضاريس واقعه اليومي، بقدمين لم تعودا قادرتين على حمل ثقل حمولة العمر، وبقلب أحاقت به الوحشة، حتى أضحى ملجأ لحزن مقيم، وكِنّا لشجو طيوره.

رؤية التلاميذ، عائدين إلى مدارسهم، تذكرني، أيضاً، بماسأة تلاميذ بلادي، ومعاناتهم، وظروفهم المعيشية والتعليمية غير الانسانية، وهم مهددون، كل يوم، بالموت، والتشريد من ديارهم، أو تدمير مدارسهم، أوتحولها إلى ملاجيء للمشردين، الذين حرمتهم حروب الصراع على المال العام والسلطة، خلال ثمانية أعوام، من العيش، وكدرت عليهم صفو حيواتهم، وأحالتهم إلى لاجئين في بلادهم، وأعادت بهم عجلة الزمن إلى الوراء، فصاروا ، في بلد نفطي، في القرن الواحد والعشرين، يعيشون بدون كهرباء، ومياه شرب، ومدارس، ودواء، ووقود!

من كان يتوقع أن تتحول ليبيا، بكل امكانياتها، وما منحها الله من نعم، إلى بلد، لايسمع فيه الأطفال إلا أزيز الرصاص، وأصوات القذائف، ولايجدون فيه وقتا للعب في حدائق طفولتهم وصباهم، والفرح والحبور في شوارع وأزقة آمنة، ولايتوفر للتلاميذ مدارس تستقبلهم، وتعلمهم، وتضعهم على طريق العلم والبناء للمستقبل؟

الذين بأياديهم السلاح، ومقاليد السلطة، وتتراكم الأموال في حساباتهم المصرفية، وخزائنهم، داخل البلاد وخارجها لاتعنيهم، تلك المعاناة الأليمة، شيئا ولاتزيدهم إلا حرصا على استمرار الوضع الحالي بكل سوئه وسواءته، بعد أن أطمأنوا على حياة أولادهم وذويهم، بتوفير حياة آمنة لهم في الخارج، والتأكد من حصولهم على أفضل تعليم، في أرقى مدارس متاحة، وبأغلى رسوم ومصاريف.

عام دراسي جديد وسعيد لتلاميذ مدارس لندن، أما تلاميذ ليبيا فلهم رب كريم.