Atwasat

ومضات متقاطعة: (5) ماء أبيض

محمد عقيلة العمامي الإثنين 14 أكتوبر 2019, 11:35 صباحا
محمد عقيلة العمامي

في مطلع التسعينيات، انتشر مصطلح «أميه بيضا» تزامن مع انتشار (جالونيات) المشروب الكحولي المصنع محليا، الذي يسمى في الشرق: (جرابا) وفي الغرب (بوخه). في الشرق طور هذا المشروب عمال الشركة البولندية، التي نفذت مباني مدينة المرج، تلك المدينة الآمنة الجميلة، التي دمرها زلزال سنة 1963.
لم يبتكر أولئك العمال ذلك الماء الأبيض، من بدء مباشرتهم العمل في منتصف ستينيات القرن الماضي، وإنما من بعد أن تمكن تنظيم «الضباط الوحدويون الأحرار» من إسقاط النظام الملكي وقيام الجمهورية، التي استهلت عهدها بمنع تداول وشرب الخمور؛ والأرجح أن القرار صدر في اليوم الرابع من سبتمبر، مباشرة من بعد رفع حظر التجول، فلقد طفقت سيارة (جيب) مزدحمة بشباب من سوق الحشيش، أو شارع سي على الوحيشي، كنت أعرف معظمهم، وكان يقودها أحد رفاق طفولتي. كانوا مبتهجين، بقيام الجمهورية وسقوط الملكية، ظلوا يجوبون شوارع وسط البلاد، ثم استقروا أمام الإذاعة، يشربون من زجاجاتهم، ويشتمون العهد الذي اعتقدوا أنه ظلمهم، ويغنون في الوقت نفسه للجمهورية الليبية، ملوحين بزجاجاتهم الخضراء، فأذيع على الفور قرار، من مبنى الإذاعة، التي يقفون أمامها، يمنع تداول الكحول وشربها!.
مشكلة بيع وتحريم شرب الكحول كانت في ليبيا معقدة، ففي حين كان المواطنون يتناولنها في بارات عامة في مدن ولاية طرابلس، ظلت شبه محرمة في ولاية برقة. كان من الصعوبة تحريمها في طرابلس بسبب حجم الجاليات الأوروبية خصوصا الإيطالية، ولما أرادت الدولة، من بعد توحيد الولايات، بإلغاء النظام الفيدرالي، التغلب على مشكلتها بإقرار قانون ينظم تراخيص تداولها في الشرق أيضا، نبهت دار الإفتاء الحكومة إلى أنه لا يجوز تحليل ما حرمه الله، فاتفق أن يظل الأمر على ما كان عليه، فظل الحكم في تناول الخمور، في الشرق خصوصا في بنغازي متروكا للشرطي ونقطة البوليس!
وما إن نفد المخزون من المشروبات الكحولية، من بعد سبتمبر 1969 حتى بدأت إرهاصات مبكرة لتقطير الكحول؛ فتساقط المدمنون، الواحد تلو الآخر سواء بفقدان البصر أو بالتسمم الكحولي، إلى أن أنقذت الشركة البولندية الكثيرين من شبابنا بتصنيعه وتسويقه بتقنية متقدمة، تعلموها في مصانع الفودكا في بولندا!
وسافرتُ سنة 1990 رفقة صديقنا عبدالمجيد إلى تونس، لأن طبيب عيون في طرابلس أخبره أن ثمة «أميه بيضاء» في عينيه! لم أكن حينها أعرف إلا (أمية) البولنديين البيضاء. ذهبنا إلى طبيب مشهور، ليكشف له عنها، واقترح مجيد أن أقوم أنا أيضا بالكشف نفسه!
ومن بعد أضواء سلطت على عينيَّ، وكشف دقيق، قال الطبيب أحمد الطرابلسي متبسما بلهجته التونسية الظريفة:
- «أنتما كمن طلعت في رأسه شعرة بيضاء واحدة، فقرر أن يصبغ شعره كله! قوما (حوسوا) عن (أميه بيضاء) في حلق الوادي أفضل لكما!».
منذ ليلتين جاءني عبدالمجيد، يعاودني عن مياهي البيضاء التي سحبوها من عيني اليسرى، وتحدثنا عن ذكريات كثيرة، وحكيت له عن قصتنا مع الدكتور أحمد الطرابلسي في تونس، ومزحته بشأن الماء الأبيض! وأخبرني أنه يعاني منها، ولكنه متردد في العملية، وضحت له أنها بسيطة وذهبنا إلى الطبيب وأكد له ضرورة إزالتها، وتصادف أن تجرى لي عملية عيني الثانية في اليوم الذي تجرى له عملية العين الأولى. فقلت له: «سوف نغادر المستشفى أنا بضمادة عن العين اليمنى وهو بضمادة عن العين اليسرى!».
وخطر على بالي سعيد أبوبكر الذي قام بدور (شيبوب) أخ عنتر بن شداد، في الفيلم الذي حمل الاسم نفسه، وهو من الأفلام التي شاهدناها معا في ستينيات القرن الماضي، في سينما النهضة. فعندما أراد شيبوب أن يحاكي عنتر في الشعر قال لرفيقته: «نعورك عين وتعوريلي عين ونعيش عور احنا الاثنين..». ولكننا عشنا عمرنا ببصر وبصيرة وعاصرنا معا نظامين استمرا نصف قرن، ونتطلع إلى أن نرى نهاية هذا العهد الذي حضرنا منه حتى الآن ثمانيَ سنوات!
وهذه الليلة جلسنا تحت سقف الله في الشقة 63، ولم تترك لنا ذكرياتنا فرصة لنسمع لا العندليب ولا طائر الشوك، ولا حتى عواء الكلاب ومواء القطط.
صداقتنا استمرت منذ أن أسسنا معا شركة (ماك ستاند) عند باب قهوة سي عقيلة بشارع نبوس سنة 1955 لصناعة لعب أثاث بسيط من أغطية زجاجات المياه الغازية، ثم تطورت مع قدوم المولد النبوي إلى صناعة القناديل، بتوجيه من سي محمد الفقي، الرجل الذي يعشق عبدالوهاب، ويجيد غناء أغانيه، وهو الذي قلت لكم من قبل إنه غنى لنا ذات مساء أغنية عبدالوهاب: «أمتا الزمان يسمح يا جميل وأسهر معاك على شط النيل» وأجادها وانفعل حتى إن عينيه أدمعتا، وهو يقول: «لكن أنا عمري ما شفت النيل!».
تلك الليلة تحدثنا عن هذه الصداقة التي استمرت قرابة 66 عاما، لم تنقطع، سوى فترات قصيرة أحيانا بسبب عمله، أو عملي وأحيانا بسبب سوء فهم، أو اختلاف في قناعات بأحد النظامين اللذين عشناهما. اختلاف وصل كثيرا حد الجدل، أو افتراءات قيلت ممن لا يحبون الوئام والرفقة الطيبة. والدته أصبحت مثل والدتي، ووالدتي كانت له كوالدته.
ولكن لماذا أحدثكم عنه؟ لأنه ببساطة شاهد على أدق تفاصيل حياتي، وبالتالي أنه في تقديري أفضل من يستطيع حل ومضاتي المتقاطعة، وبالتالي شاهد إثباتها، وأيضا قد يصحح بعضها، وإن كنت على يقين أن نقاء سريرته تسبب بكل تأكيد في ذاكرة ضعيفة للغاية.
الأنقياء هم في الغالب أصحاب ذاكرة ضعيفة، أما غيرهم، وأنا منهم فذاكرتهم متقدة. ولقد سبق وحدثتكم عن زيارة عضو مجلس قيادة ثورة مصر سنة 1952 كمال الدين حسين إلى بنغازي سنة 1955، وما زلت أتذكر لون القميص الذي أهداه لنا بلونه الرمادي، وصور محمد نجيب، وأغنية: «يا محمد يا نجيب يا حتة سكره!».
سوف تتواصل، بعون الله، هذه الومضات منذ سنوات الوعي المبكرة. ولعل من تابعوا حلقات قهوة سي عقيلة سينتبهون إلى أنني سوف أستثمر ما وثقته، خلالها، كسيرة للمكان، وما أتطلع إلى أن أنجزه الآن هو سيرة للإنسان بمحاولة لتحليل تجاذبات مما طرأ علينا منذ استقلالنا، من طفرات، قد يكون ما وصلنا إليه الآن هو من نتائجها. فلقد وهبنا الله أساتذة علمونا أن التاريخ ليس فقط مجرد سرد للأحداث، ومكانها بقدر ما هو تحليل وربطها، فيجعلها بمثابة سلسلة متصلة، مفيدة.
أستاذي الدكتور فوزي جاد الله يرى أن مواضيع الحضارة الإنسانية هي في مجملها تلك التي تشكل وسطا بين التاريخ والفلسفة. غير الكاتب «بول فين» في كتابه «أزمة المعرفة التاريخية» يقول عن التاريخ: «.. إنه مجرد حرفة يفترض التدريب على تعليمها؛ لا لشيء إلاّ لأنه مجرد أحداث يقدم المؤرخ عنها سجلا زمنيا لتدوينها، وفي أحسن الأحوال يراه فنا ينطوي على حبكة درامية..»، وأنا أقول إن لم نستفد من معرفة تاريخنا، فعلى أقل تقدير سوف نتسلى من حبكته الدرامية».