Atwasat

نقد على الهوية (2-1)

عمر أبو القاسم الككلي الأحد 13 أكتوبر 2019, 12:55 مساء
عمر أبو القاسم الككلي

يقول نصر حامد أبو زيد* أنه "حين يذكر موضوع الدراسات الإسلامية، يبدأ الناس يفكرون بالإيمان وليس بالبحث العلمي" (ص: 88). ويزداد الإصرار على تحديد الكفر والإيمان إذا كان المتصدي لهذه المهمة عربيا يدل اسمه على أنه من وسط مسيحي.

نلمس النقطة الأخيرة بالذات في مقال محمد خليفة "فضاء النقد" الذي نشر على حلقتين في الموقع الإلكتروني "بوابة الوسط" التابع لصحيفة الوسط. والذي يتناول فيه نقد طرابيشي، من خلال مشروعه الضخم "نقد نقد العقل العربي" نقدَ الجابري في مشروعه، الضخم أيضا، "نقد العقل العربي".

يقول محمد خليفة "القدر المتيقن لدي هو أن طرابيشي ليس مسلمًا". ويقول أيضا "وأيما كان دين طرابيشي أو ايديولوجيته يظل ذلك غير ذي قيمة عندي طالما هو غير مسلم". وباعتباره غير مسلم (الكاتب لم يستخدم لفظة "كافر" وهذا يحمد له) "فإنه "يؤله العقل". ونحن نرى أن في هذا التعبير مغالطة معرفية كبرى تفضي (كي لا نقول: تهدف) إلى تحريض القاريء العربي المسلم ضد جورج طرابيشي الكاتب العربي غير المسلم. وجوهر المغالطة أن تعبير "تأليه العقل" يستخدم بمعنى مجازي المقصود منه أن العقل أصبح مرجعا في معالجة القضايا والحكم على الأشياء بدلا من التوجه الديني الذي يضع التاريخ الإنساني برمته والمصير البشري بجملته بين يدي القدر. ولا يعني أن العقل حل محل الإله وصار يقدس ويعبد من خلال طقوس وتقربات، مثلما يوحي تشديد محمد خليفة على فكرة "تأليه العقل" في أكثر من مكان من مقاله. الأمر هنا مجاز صرف، كأن نقول "الجمل سفينة الصحراء". فعمليا لا علاقة للجمل، الذي هو كائن حي، بالسفينة المصنوعة من خشب، سوى أنهما وسيلتا نقل وتنقل، وقد تستخدمان في الحروب، ولا علاقة للصحراء بالبحر إلا من باب المجاز والتأويل. أو كأن نقول "السحر علم الإنسان البدائي" فلا علاقة للسحر بالعلم وإنما المقصود أن الإنسان البدائي كان يتوق إلى أن يحقق بالسحر ما صار يحققه الإنسان الحديث بالعلم.

ويضيف محمد خليفة "كون طرابيشي غير مسلم (مسيحي) مكنه من التماهي في الحضارة الغربية بما فيها من فكر وثقافة" والكاتب هنا يستخدم تعبيرا دقيقا هو "التماهي" المشتق من الماهية، والمقصود أن الفكر الغربي يشكل جزءا، على الأقل، من وجدان جورج طرابيشي وهويته. ويضيف "وهذا القدر من التماهي في الفكر الغربي، حتى لا نقول الحضارة الغربية، لا يستطيعه المسلم. وهذه هي نقطة ضعف الجابري الذي انحاز للسان (العربي) ليصنع منه عقلاً مستقلاً، ونظيرًا للعقل الغربي الحديث، فقابله طرابيشي بالرفض، مخصصًا كتابًا بالكامل (408 صفحات) لـ "وحدة العقل العربي الإسلامي"!

لست أدري أين انحياز الجابري للسان العربي ليصنع منه عقلا مستقلا... إلخ! ففي كتابه "اشكاليات العقل العربي" (قرأنا الكتاب مؤخرا وهو في حوزتنا، لكننا نعتمد هنا على اسكندر عبد النور** "يرفض طرابيشي... تأكيدات الجابري التي تحط من قدر اللغة العربية – وخصوصا القول بأن هذه اللغة ‘‘حسية‘‘ و ‘‘لا تاريخية‘‘" (ص 57). وأين هو الاستقلال في تعريف الجابري للعقل العربي، مثلما أورده اسكندر عبد النور في الكتاب المذكور (ص 55) على أنه "ليس جوهرا ولا طبعا أو طبيعة ولا "عقلية"، إنه فقط جملة المفاهيم والآليات الذهنية التي يتم بها إنتاج المعرفة داخل هذه الثقافة" ويضيف "‘‘أما العقل العربي‘‘ هكذا بالإجمال فهو شيء تجريدي".

في السياق ذاته يضيف محمد خليفة " إصرار طرابيشي على وحدة العقل العربي- الإسلامي يضعه بالضرورة خارج هذا العقل، حالة كونه غير مسلم!". وهنا نلمس ازدواجية المعايير، فالإصرار على وحدة العقل العربي- الإسلامي من قبل شخص عربي غير مسلم يضعه، حتما، من وجهة نظر محمد خليفة، خارج هذا العقل، بينما "نقد العقل العربي" من قبل شخص عربي مسلم يضعه داخل هذا العقل!. في حين أن المعروف أنه عند الحديث عن النقد فإننا نضع أنفسنا، ضرورة، إذا كنا نقادا جادين، خارج ما ننقده. كما أن محمد خليفة سكت عن أن الجابري يتحدث عن العقل العربي فقط، ولا يلحق به صفة "الإسلامي" على غرار ما يفعل طرابيشي.

يأخذ محمد خليفة على طرابيشي قوله أن الجابري "فوت على نفسه فرصة لتطوير موقف نقدي فعلاً من هذا العقل [المكوَّن]، أي موقف ينطلق من المواقع المتقدمة للعقل المكوِّن ليسجل ضربًا من السبق و"التعالي" على العقل المكوَّن وليراه بضرب من الاسترجاع، في نسبيته وتاريخيته بوصفه عقلاً لحقبة تاريخية محددة لا للتاريخ، عقلاً لحضارة بعينها لا للحضارة، عقلاً أسيرًا لمعطياته ومرشحًا بالتالي لأن يتجاوزه العقل. (طرابيشي، نظرية العقل، ص 12)" ويفسر محمد خليفة هذا القول على أساس أن طرابيشي يعني "أن الجابري قد أخفق في أن يجعل من العقل إلاهًا يتعالى على العقل العربي- المسلم (العقيم) الذي تجاوزه التاريخ (لأن الله والعقل والتاريخ شيء واحد، عند هيجل ومن لف لفه). وإخفاق الجابري هذا مرشح لأن يتجاوزه العقل أو التاريخ مرة أخرى".

حن لدينا نص لطرابيشي نفسه مقارب لنصه هذا، مثبت في كتابه "اشكاليات العقل العربي"*** وهو الكتاب التالي لكتاب "نظرية العقل" الذي ينقل عنه محمد خليفة هذا الشاهد، يقول النص:

وهو [الجابري] بعدم استيعابه إشكالية العقل المكوِّن والعقل المكوَّن، وباعتباره بالتالي "عصر التدوين عصر العقل المكوَّن – مع أنه عصر نموذجي لاشتغال العقل المكوِّن – قد حجب عن الوعي الإبستمولوجي إمكانية قراءة جدلية ثنائية الطور للحضارة العربية الإسلامية: في طور عظمتها الأولى المتطابق مع العقل المكوِّن ما بين القرنين الأول والخامس، وفي طور أفولها وانحطاطها المتطابق مع سيادة العقل المكوَّن – وقد تبلور ثم تحجر - في الحقبة ما بين القرنين السادس والثالث عشر" (ص 70). فأين هو الخلل في هذه الرؤية للسياق التاريخي للحضارة العربية الإسلامية [يصر جورج طرابيشي على صفة الإسلامية للحضارة العربية، على خلاف محمد عابد الجابري الذي يكتفي بوصف العربية]. وحتى في النص بصيغته الأولى التي استشهد بها محمد خليفة نسأل: أين هو وجه التعارض والتناقض بين قول طرابيشي بنسبية وتاريخية العقل العربي بوصفه "عقلا لحقبة تاريخية محددة... إلخ" وتأكيد الجابري في تعريفه للعقل العربي على أنه "فقط جملة المفاهيم والآليات الذهنية التي يتم بها إنتاج المعرفة داخل هذه الثقافة"؟!. إذ إن هذه "المفاهيم والآليات الذهنية" قابلة، بطبيعة الأمر، للتغير والتطور. كما أن القول بأن هذا العقل "ليس جوهرا" يعني أنه داخل في التاريخ، يتأثر به ويؤثر فيه، وبالتالي يلحقه التغير، وليس معطى ثابتا متعاليا على التاريخ.

واستكمالا لمناقشة مسألة "تماهي" جورج طرابيشي " في الحضارة الغربية "بما فيها من فكر وثقافة" لست أدري على أي أساس، غير كون جورج طرابيشي ليس مسلما، بنى محمد خليفة حكمه هذا. فإذا كان على أساس إحاطة طرابيشي بالفكر الغربي وتعمقه فيه، فإن إحاطة محمد عابد الجابري، المسلم، وتعمقه في هذا الفكر لا يقلان عن مستوى طرابيشي، كما أن إحاطة هذا بالفكر العربي- الإسلامي لا تقل عن مستوى ذاك.
وفي هذا السياق لدينا شاهد واضح على عدم "تماهي" جورج طرابيشي مع الفكر الغربي نورده اعتمادا على اسكندر عبد النور (ص 56) (ولست أدري إن كان محمد خليفة سيعتبره، بناء على اسمه مسلما، فيقبل شهادته، أو غير مسلم فيرفضها). يقول عبد النور:
يفحص طرابيشي في كتابه الأول [وهو "نظرية العقل" الذي يعلن محمد خليفه في مقاله أنه قد قرأه] الفجوات في فهم الجابري لمراجعه الغربية الأساسية. ينصب الجزء الأكبر من هذا المجلد على رفض موقف الجابري القائل بأن "الحضارات الثلاث اليونانية والعربية والأوربية الحديثة هي وحدها التي أنتجت ليس فقط العلم، بل نظريات في العلم، إنها وحدها – في حدود ما نعلم – التي مارست ليس فقط التفكير بالعقل بل أيضا التفكير في العقل" [تتم الإحالة إلى محمد عابد الجابري "تكوين العقل العربي"] أكب طرابيشي على رفض هذه الاستنتاجات باللجوء إلى الصياغات الهيغلية المفهومية للعقل، مع عرض مستفيض لفكر ما بين النهرين (Mesopotamia). وكل من الفكر الصيني القديم والهندي، وذلك كي يبين أن التفكير العلمي ومسلماته كان يمارس في تلك الحضارات. كما قام طرابيشي بفحص الفلسفة الفينيقية مطولا في سعي منه للبرهنة على أنها تشكل أساس الفلسفة ما قبل السقراطية، وأن التفكير والسلوك اليوناني لم يكونا عقلانيين وديمقراطيين، كما زعم الجابري". وإذن، فالجابري "أقرب" إلى "التماهي" مع الفكر الغربي منه إلى طرابيشي.
إن نقد محمد خليفة لجورج طرابيشي، هو نقد على الهوية، وليس على العلم والمعرفة.

* نصر حامد أبو زيد وإستر نيلسون. صوت من المنفى: تأملات في الإسلام. ترجمة: نهى هندي. الكتب خان. القاهرة. ط2. 2017.

** اسكندر عبد النور. العقل العربي: أنطولوجيا المجرَّد والعيني. ترجمة: د. مصطفى حجازي. مركز دراسات الوحدة العربية. بيروت – لبنان. 2017.

*** جورج طرابيشي. اشكاليات العقل العربي. ط 4.دار الساقي، بيروت- لبنان 2011.