Atwasat

مطبخ ساخن ووجبة في يد الغيب

جمعة بوكليب الأربعاء 09 أكتوبر 2019, 02:20 مساء
جمعة بوكليب

المراقبون، والمتابعون للشأن البريطاني موقنون بإجماع أن درجة الحرارة الحالية في فرن المطبخ السياسي غير مسبوقة، ولا تطاق. ومع ذلك ما زال المطبخ مليئا بأساتذة فن الطبخ ومساعديهم، ومستشاريهم. إلا أن كل تلك الخبرات المتوفرة في فن الطبخ السياسي، ومضافا إليهم درجة الحرارة العالية، والتعرق، والصياح، لم تتمكن، بعد، من إنضاج وطبخ وجبة الخروج من الاتحاد الأوروبي، رغم إمكانية احتراق المطبخ بمن وما فيه قبل نهاية شهر أكتوبر الحالي!

المتابعة الإعلامية لتسابق الأحداث وتطورها، في مختلف وسائل الإعلام، شائقة. لكن أكثرها تشويقا، بالنسبة إلي، تلك الحرب الضروس على صفحات الجرائد بين المطالبين بالخروج باتفاق أو دونه، والرافضين الخروج دون اتفاق.

يقف فريق المعادين لأوروبا ممثلا في صحف التابلويد اليمينية الرئيسة، التي توزع على المستوى القومي: «الديلي ميل، الميل أون صنداي، الصن، الصن أون صنداي، الديلي إكسبرس»، فريق مخضرم، شرس، يميني حتى العظم، لا تنقصه الوسائل ولا المهارات. وعلى يسارهم تقف «الديلي ميرور». هناك، أيضا، الصحف المحلية وهي مهمة مثل صحيفة «الإيفننج ستاندرد» المسائية، و«المترو» -في لندن- حيث تقف الأولى في صف الخروج، والثانية في الصف المقابل.

في الصحف الرئيسة، تقود صحيفة «الديلي تلغراف»، وزميلتها الأسبوعية «الصنداي تلغراف» جوقة الخروج بصوت عال، لا ينقصه الاهتياج، وبشعار الغاية تبرر الوسيلة. «الديلي تلغراف» هي صحيفة المحافظين الرئيسة، وشعبيا يطلقون عليها اسم «توري تلغراف»، والتوري هو الاسم الذي يطلق على المحافظين. وهي الصحيفة التي كان السيد بوريس جونسون، رئيس الوزراء الحالي، يكتب بها مقاله الأسبوعي. إلى جانبها، وعلى مسافة منها، تقف صحيفة «التايمز». لكن رغم اتفاقهما في الهدف: الخروج من الاتحاد، يبدو الفرق، في الوسائل الموصلة إليه، واضحا. فـ«التايمز» تحسب على اليمين الليبرالي. وتتسم بالرزانة والمهنية، وهي صحيفة بتاريخ عتيد. والأهم البعد عن التهريج، والتحريض. ويرافقها في نفس الرحلة زميلتها صحيفة «الصنداي تايمز» الأسبوعية. فريق مهني رزين، ومتمكن، يرى هدفه واضحا، ويعرف كيفية الوصول إليه. وعلى سبيل المثال، فإن صحيفة «الصنداي تايمز» رغم دعمها المحافظين، وموقفها الداعم للخروج، كانت هي الصحيفة الأولى التي كشفت منذ أسبوعين بشكل حصري عن فضيحة علاقة السيد جونسون بسيدة أمريكية، حين كان عمدة لمدينة لندن.

مقابل الفريق أعلاه، تقف صحيفة «الجارديان» العتيدة، المحسوبة، تاريخيا، على اليسار الليبرالي. «الجارديان»، تدعو لرفض الخروج من أوروبا، وحاليا، تقف في صف المنادين بضرورة الخروج باتفاق. وإلى جانب هذه الصحيفة العتيدة، تصطف صحف «الفايننشال تايمز» المتخصصة في الشؤون المالية، و«الإندبندنت»، و«الأوبزرفر» الأسبوعية.
صفحات الرأي في هذه الصحف ملاعب مفتوحة أمام المخضرمين من الكتاب، والأكاديميين، والسياسيين، باختلافاتهم، بشكل مثير، يجعل المتابع والمراقب حريصا على قراءتها لأهمية ما تحتويه من تحليلات، وردود، ولقدرتها على رسم لوحة كاملة التفاصيل للمشهد السياسي، وما يحدث في خباياه من ألاعيب، وصراع بين مختلف أطرافه. وهي في أحيان أخرى، تتحول إلى ميادين لمعارك حامية، بين مختلف الكتاب، والمحللين.

الحرص على متابعة أخبار التطورات السياسية السريعة يجعل المرء يتمنى لو أن له عشرين عينا، كي لا تفوته، كما يقول المثل، واردة ولا صادرة، ولا شاردة. ذلك أن المنطقة الصغيرة التي يطلق عليها اسم قرية ويستمنستر، وسط لندن، (حيث البرلمان، ومقر رئيس الحكومة، ودواوين الحكومة) هذه الأيام، مثل خلايا نحل، لكنها حقيقة مليئة بدبابير سامة، بتوجهات سياسية مختلفة، ومصالح متضاربة، تجعل المرء يتعجب مما لديها من قدرات على التآمر، والجدال، والخوض في حروب تبدو كأنها أبدية.

هناك ملاحظة جديرة بالذكر، وهي أن حمى الحرب الجارية قد طالت المعجم القاموسي السياسي على مستوى البرلمان والإعلام، حيث بدأها السيد جونسون، رئيس الوزراء، بإطلاق أوصاف على معارضيه معيبة، وغير مألوفة، كوصفهم بـ«المتعاونين مع أوروبا»، ووصف القانون، الذي يحتم عليه بصفته تقديم طلب بتأجيل الخروج، بـ«وثيقة التسليم». لكن الحرب المعجمية اشتد لهيبها، ووصلت إلى صحف التابلويد اليمينية، بشكل يدعو إلى وضع الأيادي على القلوب خوفا مما قد يسببه التحريض اللغوي من اندلاع للعنف في مجتمع يعاني من انقسام حاد. وقرأت تقريرا نشر مؤخرا لأستاذ أكاديمي متخصص في اللغويات، يؤكد أن القاموس السياسي البريطاني قد ازداد بمعدل 200 مصطلح جديد. وأن هذه المصطلحات لا تجد طريقها إلى أذهان كل الناس، وبالتالي هناك خوف من عجز الأغلبية عن فهم ما يقال وما يردد في الجدال السياسي الدائر، وخلق هوة كبيرة من عدم الفهم بين ما تردده النخبة السياسية وما تستوعبه أذهان المواطنين العاديين.