Atwasat

المرأة وحقوق ما بعد الموت

سالم العوكلي الأربعاء 09 أكتوبر 2019, 01:09 مساء
سالم العوكلي

رغم أن النظرية النسوية ترعرعت واتسعت في ظل أفكار ما يسمى (ما بعد الحداثة)، إلا أن البعض يعتبر أن منظومة ما بعد الحداثة كانت أقرب إلى الفقه الذكوري في تناولها قضية المرأة، التي دشنت كركيزة من ركائز نثر الحداثة، وانتقلت بمفاهيمها المكرسة إلى نثر ما بعد الحداثة بمساهمة الكثير من المفكرين الذكور وقلة من المفكرات، وفي قلب هذا الفضاء المعرفي الجديد الموسوم بالتهكم والريبة وجماليات التجاور، لم تنج النظرية النسوية من أثر هذه السمات للرؤية المختلفة للعالم ومستقبله.

ترى لورا كيبينيز في مقالها «النظرية النسوية: الضمير السياسي لما بعد الحداثة» المنشور بكتاب بيتر بروكر (الحداثة وما بعد الحداثة) ترجمة عبد الوهاب علوب: «أن النظرية النسوية تعتبر ما بعد حداثية لكنها فشلت في الوفاء بدورها السياسي المرتقب، ونأت بنفسها عن (الشعبي) بالصورة نفسها التي نأت بها الماركسية الغربية عن (الجماهير)، وبعد أن تسببت في أزمة الحداثة تخلت عن مجال الأشكال والاتجاهات الشعبية نحو اليمين الجديد».

في العام 1983، كما يرد في الكتاب نفسه، قال كريج أوينز إن «غياب المناقشات التي تتناول اختلاف الجنس... وقلة عديد النساء اللائي شاركن في المناظرات الدائرة حول الحداثة وما بعد الحداثة توحي بأن ما بعد الحداثة ربما كانت ابتكارا آخر للرجل صمم بحيث لا يشمل النساء». وحين يقال «ابتكار آخر»، فهذا يعني أن ابتكارات سابقة كانت تنحو المنحى نفسه، سيطرة العقل المذكر في تدبيج لغة التواصل والتفكير، وهيمنة العقل الذكوري في صياغة الفقه المتعلق بواقع المرأة في الخطاب السلفي، وصولا إلى هيمنة العقل نفسه في ابتكار النظرية النسوية في الخطاب المتحرر، جعل من هذا التوجه تطريزا جماليا على قماش كتاني أصيل يتمركز فيه الذكر دون أن يتوقف على هباته للجنس الآخر مما يفيض من التبجح الأبوي، وربما نجح هذا التباهي الذكوري الذي وضع تحت لافتة «النضال النسوي» في أن ينقل المرأة من المقاعد الخلفية في العربات الفارهة إلى المقاعد الأمامية، وأن يفضي إلى مقولة التهذيب الحضاري «السيدات أولا» في عبور عتبات القطارات أو مراكز التسوق، ويبدو أن وضع السيدات في أول الطابور نزعة أبوية مهذبة من شأنها أن تضعهن نصب الأعين وتحت المراقبة، كما يحدث في مؤسساتنا ومطاراتنا وغيرها من أمكنة التزاحم، أو سياسات الفصل الجنسي في طوابير المصارف، التي سرعان ما تنتفي فيها هذه القيم المتصدق بها من الذكور حين يبلغ الزحام مداه.

جوليا كريستيفا الفرنسية تكتب بحثا بعنوان «ما بعد الحداثة» ولأن مصطلح ما بعد الحداثة نادرا ما يرد في المناظرات النسائية الفرنسية، يضاف إلى عنوان المقالة (علامة استفهام) لأغراض النشر الأميركي، وترد كريستيفا على هذا العلامة بقولها: «أن الكتابة ما بعد الحداثية توسع حدود المدلول»، وإذ ترى أن الفن هو استكشاف ما لا يقبل العرض والتصوير «كالموسيقى والإيقاع والشذى الغريزي» تتحاشى وضع المرأة في هذا السياق الفاتن «ما لا يقبل العرض»، أي في موقف الآخر. حسب وجهة نظري أن علامة الاستفهام التي أضيفت إلى عنوان المقالة رمز لعضو ذكوري يهب رخصة للمقال كي يجوب تأملات ما بعد الحداثة الذكورية.

هوليوود مركز التقدم البشري الذي يجتاح العالم بأفكاره المشهدية ما زالت تعاني من انتهاك حقوق الممثلات، وما زالت تبرز من بين نجماتها رموز للنضال النسوي الذي يطالب بالعدالة في المساواة بين أجر الممثل والممثلة، وما زال تاريخ الفكر ينتج مفكرين كبارا يشككون بذهنية ما بعد الحداثة، ويرتابون في قضية المساواة بين الرجل والمرأة، مرتكزين على كشوفات علمية تجعل من هذه المساواة ترفا نظريا، حيث البيولوجيا تقوض شعارات السوسيولوجيا، وحيث الغرائز تقف بصمود أمام تصورات العقل المجرد، وحيث يركز الفقه ما بعد الحداثي على المرأة كآخر أو كأقلية مضطهدة، وفي أفضل الأحوال كشذى غريزي يضوع من بعض الكتابات المنحازة للنثر النسوي الذي طالما استلهم رؤاه مما كرسته الحداثة من مفاهيم اجتماعية واقتصادية وأنثربولوجية عن ثيمة الجسد، أو الجسم التشريحي كما أعادت إنتاجه مؤسسات البحث العلمي، وكما أصبح الجسد الأنثوي الموضوع المركزي لدعاية السوق والترويج حتى لإطارات السيارات.

رافق هاجس المرأة أحلام الربيع العربي الذي لم تتأسس في لغته المهيمن عليها من الفقهاء أية نظرية نسوية بالمعنى المعروف، ورافق المراحل الانتقالية هذا الهاجس بين من يرى في مشاركتها امتحانا حقيقيا للتحول الديمقراطي وبين من يرى أن المرأة يجب أن تتوقف عند الحقوق التي وضعتها لها الشريعة المقدسة. وبرزت في هذا الصراع عناوين المرحلة: أزمة التحرش الجنسي في مصر، والدفاع عن منجزات حرية المرأة البورقيبية في تونس التي بدأت تنتقد بقوة، والكوتة النسائية التي صاحبت أول انتخابات في ليبيا، ليظهر في قلب هذا الصراع فتاوى وعناوين كبيرة تشرعن الزواج من الصغيرة والقاصر، والسبي والبيع في سوق النخاسة المرخص، ونكاح الجهاد، ولتدخل المرأة باعتبارها «آخر» حيز (غير القابل للعرض) فتحرم مع الموسيقى والرسم وابتكارات الفن.

أذكر أني كتبت مرة ما مختصره أنه في بطاقات دعوات عقد القران، عندنا، يمنع ذكر اسم العروس ويكتب اسم العريس ثلاثيا، وعندما تموت المرأة تنشر صورتها واسمها كاملا في صفحة الوفيات. ويصبح الموت وحده هو القادر على تحرير هوية الأنثى وتحرير الذكور من رهابهم تجاه خطر أنوثتها الحية. وحقيقة فإن النضال من أجل حقوق المرأة لاحقها حتى في القبر لتذهب بعض المطالبات الحقوقية، بتاريخ رجعي، إلى المساواة في الموت والمقابر، معطية بظهرها للعواطف ولذلك التاريخ الحميمي بين الأجساد قبل أن تتوقف عن النبض، حتى وإن أدى الأمر إلى خيانة الوصايا. يقول ميلان كونديرا في كتابه «الوصايا المغدورة» ـ ترجمة معن عاقل: «خلال أحد البرامج التلفزيونية الذي شاركت فيه ثلاث نساء شهيرات ومحبوبات، اقترحن بالإجماع أن من حق النساء أيضا أن يدفن في البانثيون (مدفن عظماء الأمة) وينبغي التفكير، كما قلن، بالدلالة الرمزية لهذا العمل. وقد قدمن في الحال أسماء بعض السيدات العظيمات اللاتي يمكن نقل رفاتهن إليه. إنه لاستحقاق عادل، بالتأكيد؛ بيد أن شيئا أقلقني: تلكم النسوة المتوفيات اللاتي يمكن نقل رفاتهن إلى البانثيون في الحال، ألا يرقدن إلى جانب أزواجهن؟ بالتأكيد، وهن من أردن ذلك أيضا. فماذا سنفعل مع الأزواج إذن؟ أننقلهم هم أيضا؟ ذلك أمر صعب؛ ولأنهم ليسوا رجالا مهمين بما يكفي، فسيكون لزاما أن يبقوا حيث هم، أما النسوة اللاتي نقلت رفاتهن فسيقضين زمن الأبدية في وحدة الترمل الموحشة».