Atwasat

ليبيا التي لا نكتب في سياستها

نورالدين خليفة النمر الإثنين 07 أكتوبر 2019, 12:19 مساء
نورالدين خليفة النمر

يتماهي وصف الأديب بالكاتب في الثقافة العربية الكلاسيكية. فالجاحظ وابن المقفع والتوحيدي، وابن مسكويه، وغيرهم من المفكرين الذين لم يكتبوا نصّا أدبياً إبداعياً بل كتبوا في قضايا الفكر فكان بعضهم مفكراً متكلماً لاهوتياً، والبعض أخلاقياً إتيقياً، والبعض مفكراً هرطوقيا زنديقاً والبعض فيلسوفاً. ظل هذا التقليد سائداً حتى القرن 19 وبداية العشرينيات وملتصقاً بأعلام الكتابة العربية في عصر النهضة من جمال الدين الأفغاني حتى جرجي زيدان ولطفي السيّد وطه حسين والعقاد. الأحزاب الاستقلالية في عهد الانتداب البريطاني الليبرالي، أنشأت صحفاً ناطقة باسمها، وجدت ضالّتها في أقلام هؤلاء الأدباء للتعبير عن وجهة نظرها في السياسة الوطنية. ولتأثيرهم في مشاعر القراء من متعلمي الطبقة الوسطى وعواطفهم، يصعب الفصل فيما كتبوه بين الأدب والسياسة، بل نستطيع القول في وصفه سياسة أدبية.

في ليبيا التي انتدبت بريطانيا على إقليميها طرابلس وبرقة بعد نهاية الحرب العالمية الثانية حدث فيها تقريباً الأمر نفسه. فتداعت أحزاب وجمعيات وهيئات المطالبة بالاستقلال في طرابلس وبنغازي، فانجرّت إليها الأقلام الأدبية تكتب بحبر الأدب في قرطاس السياسة أسماء منهم الأخوان علي وأحمد الفقيه حسن، عن الكتلة الوطنية وبعدهم الكاتب والخطيب الشاب علي مصطفى المصراتي، عن حزب المؤتمر الطربلسي والشاعر الصحفي علي الديب، وفي بنغازي بشير المغيربي باسم جمعية عمر المختار .

توّجت المساعي الوطنية بحدث الاستقلال، وأعلنت ليبيا دولة ملكية مستقلة أسست صحيفتين في طرابلس باسم طرابلس الغرب وفي بنغازي باسم برقة الجديدة وبعد الاتفاقية الليبية الفرنسية جريدة فزان. وكفلت الدولة حق إصدار صحف مستقلة للخواص. فتأسست في طرابلس الليبي والشعب والفجر والرائد والحرية والميدان، والبلاغ وفي بنغازي الدفاع والوطن والحقيقة.

تجميد الحياة السياسية، بإلغاء الأحزاب بعد أزمة الانتخابات النيابية 1952، ألقى بثقله على الصحافة المستقلة. فعدا البلاغ والشعب والدفاع اللاتي صدر الحكم بسحب تراخيص إصدارها كلٌ في قضية منفصلة، اندرجت الصحف المستقلة الأخرى، عدا بعض فلتات، في سياق الصحف الثلاث الحكومية. فالتضييق على السياسة صار خوافاً، دفع الكُتاب إلى أن ينخرطوا في الكتابة بالرؤية الأدبية في الصحافة الملكية والجمهورية وبعد نشوء الصحافة المتكلمة باسم حركة اللجان الثورية الذين هم ليسوا أعضاءها. سجن بعضهم وصمت البعض الآخر وانكفأ البعض على إصدار كتب أدبية إن سمحت بذلك مؤسسة النشر التابعة للدولة. وهذا اللون من الكتابة نراه يسود حتى اليوم في الأقلام الليبية القليلة التي تكتب بشئ من حرفية المقال الصحفي والمداومة إسبوعياً في صحيفة الوسط الليبية .

الوجه الثاني للمشكلة، كانت الجامعة الليبية، التي اعتمدت في نشأتها على أساتذة من جامعات بلدان عربية كمصر والعراق ولبنان، قلّ اهتمامهم بليبيا فاكتفى أغلبهم بإصدار المراجع المنهجية للطلبة، وقليلهم من أصدر الكتب في التاريخ الليبي القديم، والحياة الأدبية في ليبيا. وحتى 1974 عام التحاقي بالدراسة في جامعة بنغازي، ونفس الحال في كلية التربية بجامعة طرابلس تسيّد الأساتذة العرب، وانتظرنا حتى عام 1976 ليقدم طلائع الأساتذة الليبيين من البلدان الغربية التي ابتعثوا إليها. في هذا العام تأسس قسم الصحافة، وتأخر تأسيس قسم العلوم السياسية لما بعد حدث الـ 7 من إبريل الدامي الذي أفسد الحياة الجامعية والسياسية الليبية .

عندما وُجّهت كوني دارسا على حساب الدولة للعمل في أمانة الإعلام الليبية، وجدت نفسي مع زملاء دفعتي في إدارة المطبوعات، التي يهيمن عليها بقية من مصر وعرب من فلسطين وسوريا والعراق جلبتهم الدوافع القومية للعمل في ليبيا. كانت المهمة مراقبة الصحف العربية والغربية المستوردة من المنشأة الحكومية لنشر واستيراد الكتب وتوزيع الصحف. كان النظام الليبي متوّرطاً في مستنقعات سياسية وإرهابية في بقاع عديدة من العالم. تبدأ من إيرلندا ولندن إلى أمريكا إلى أوروبا بتصفية المعارضين الليبين إلى الفلبين ولبنان بين سنة وشيعة ومسيحيين، وبين الجبهات الفلسطينة ومقاطعة مصر، والتريّب من العراق، ثم موالاة إيران ضده ومهاجمة المملكة السعودية ومذهبها الوهابي والسلفية والتشكيك في السُنة النبوية. وفي نزاعات أفريقيا من أوغندا إلى إلى كينيا وعندما توليت الأدارة كان التدّخل العسكري في تشاد. الليبيون الذين كانوا ضحايا هذه السياسات الخرقاء، لم يكونوا في حساب النظام، فليس هناك إعلام ليبي لاستمالتهم إلى جانبه، وتشكيل رأي عام ليبي يصطف معه في معاركه فلا صحافة ولاإذاعة ولاتلفزيون. أما الرأي العام العربي فتم تأسيس وشراء صحف يومية ومجلات أسبوعية لبنانية، موالية لسياساته، وضغط على صحف أخرى بنشر إعلانات الدولة الليبية وشراء كميات أكبر من حاجة السوق الليبي لها.

في عائلتي الأمية التي لاتقرأ ولاتكتب، كان فقط خالي الوحيد الذي كان يواصل تعليمه الابتدائي في المدرسة الليلية، كان يقتني لميوله لجمال عبد الناصر مجلتي المصور وآخر ساعة المصريتين، ربما تأثراُ به اتجهت في صفي السادس بماتوفر لي من مصروف الجيب لاقتناء جرائد كطرابلس الغرب والرائد والحرية. ثم توسعت هواية قراءة الصحف والمجلات المصرية واللبنانية من الثانوية إلى الجامعة. لأعوام 80 ـ 81 ـ 1982 صرتُ مديراً لإدارة الصحف والمجلات من مهمتي في نهاية دوام العمل إعداد تقييم يومي للصحافة العربية ـ عدا المصرية الممنوعة ـ المجازة أو المصادرة عن القارئ الليبي الذي ليس له منفذ للعلم بمجريات العالم غيرها. وهذا التقرير تأتي سيارة من مكتب معلومات القيادة السياسية لتأخده للاطلاع عليه، وكثيراً ما أرجعت لي تقاريري للاستيضاح، والتفصيل والإكمال.

حتى ذلك الوقت عام 1986، إبّان الغارّة الأمريكية على مقرّ الأمن الليبي وثكنة باب العزيزية في العاصمة طرابلس كانت ما نقيمه من مقالات الرأي في بعض الصحف الكويتية والصحافة البيروتية والأخرى التي هاجرت إلى عاصمتي الغرب لندن وباريس، ومانلقي عليه الضوء من مقالات الصحافة البريطانية والأمريكية والفرنسية ، محل اهتمام بالغ لدي رأس النظام الحاكم في ليبيا. مع نهاية الألفية الثانية وبداية الثالثة كنت في ليبيا ومكثت فيها شهوراً لاحظت أن الاهتمام بدأ يتجه إلى القنوات التلفزية العربية. وفي 14 يناير 2011 حدثت انتفاضتا تونس ومصر. كنت هناك في طرابلس. أما حدث الثورة الشعبية الليبية 17 فبراير عام 2011، فأخبرني به في مدينة بون بألمانيا صديقي الذي سافر نفس اليوم وفي سمعه يتردد صدى أنصار النظام الليبي هاتفين ياجزيرة ويقصدون القناة التلفزية القطرية ياحقيرة .

من المؤسف أن ليبيا ثورة 17 فبراير 2011، حُرّفت عن مسارها الثوري مبكراً دون أن يشعر البريئون الليبيون الذي يلتصقون بمهنة الكتابة والإعلام. وتبادلتها بالتزييف الادعاءات والنهابات والولاءات للنظام المسقط والانتهازيات الدينية والقبائليات والجهويات الليبية، واختراقات الثورات المضادة العربية، وتشابك المصالح الدولية التي لها اهتمامات اقتصادية وجيوسياسية فيها. أنا أتفهم الظروف الصعبة المحيطة، والإكراهات الضاغطة. ولكن ليبيا اليوم تحتاج إلى وجهة النظر التحليلية التي تكتب في سياستها لبث ضوء المعرفة فيها.