Atwasat

نبضات متقاطعة: (4) البلبل والضجيج

محمد عقيلة العمامي الإثنين 07 أكتوبر 2019, 12:17 مساء
محمد عقيلة العمامي

أخي وصديقي مصطفى
وددت أن أعود بك إلى الشقة 63، التي كتبت لك منها موضوعا أعجبني وقتها كثيرا، وعندما عدت إليه اكتشفت أنني وظفته أكثر من مرة في عدد من مقالاتي، بل وفي رسائل بعثتها لأصدقائي منهم من شاركته فيه لا لشي إلاّ لإعجابي بما كتبت وأنا أعلم أنه يتذوق الكلمة، وفوق ذلك منحه الله موهبة النقد البناء، ومنهم من حاولت أن أمنح له فرصة أن يراجع نفسه؛ وينتبه إلى وضعه الحالي، وإلى وضعي الذي لم يعد مثلما كان، وأن ينتبه إلى أن الله عندما ينبت جناحين للكائن، يريده أن يوسع مجال رؤيته لكائناته التي لم يكرمها بمثلما أكرمه، ما الفائدة أن ينبت لك الله جناحين، وتظل بهما كصرصار لا تطير بهما، ما الفائدة من العقل إن لم تجد لصديقك العذر، فالصديق الحقيقي هو الذي "يخلق" لصديقه عذرا، خصوصا وهو "يعتقد" أنه أخطأ في حقه. لقد حاولت أن أجد له العذر، ولكن يبدو أن فراستي فيه قد خذلتني عندما اعتبرته أحد أصدقائي الجيدين، ومع ذلك مثلما أخبرتك أنني دائما أجد لهم العذر.

ولاشك أنك انتبهت أنني أعلنت أنها ستكون بمثابة سيرة ذاتية أكتبها بنفسي قبل أن تكتب عني، وعلى الرغم من أن الواقع، يخبرني عن اقتراب موعد الرحيل، إلاّ أنني ما زلت أجد وقتا للبحث في مكتبة "أ" في محطة قطارات رمسيس، عن كتاب، أو مجلة، تسليني في انتظار الرحلة، أما عند ركوب القطار، فسوف أنام ملء جفوني، لأنني وصلت، ولو أنها حالة متأخرة قليلا، إلى القناعة بأنني "لم أعد أطمع في شيء ولا أريد شيئا.. فأنا إنسان حر". أنا لم أخبرك أن الطبيب أخبرني أن المياه البيضاء طافحة في عيني ويتعين سحبها قبل أن يتغير لونها، ولذلك إن تأخرت في الكتابة إليك أعلم أن عينيَّ ستكونان مغلقتين لبضعة أيام، ومع ذلك سأظل أراك دائما حاضرا رائعا متبسما مثلما أراك دائما.

في مكتبة "أ" وجدت كتابا دسما يتحدث عن " الترجمة الذاتية في الأدب العربي الحديث " سأقتبس منه بضعة جمل فهي إلى حد كبير لها علاقة بما أود تنفيذه، فمثلا يقول المؤلف: "... وكثير من الأعمال الأدبية، هي تراجم ذاتية في خطوطها العريضة، وفي مفهومها الفضفاض؛ من المقالة الشخصية، واليومية والمفكرة، والرواية المعتمدة على الترجمة الذاتية.." وهذا حق فالكثير مما ورد في رواياتي، بل وحتى ما كتبته عن أنواع السمك وطبخها به الكثير من الترجمة الذاتية" . وكما سترى، أن ما أنا بصدده هو مجموعة ومضات، كالشهب المتناثرة، وهو ما سيشكل سيرتي الذاتية، وأن ما سبق وكتبته، هو ما قد يسد ماقد يعتقد القارئ أنه فراغ.

وأستطيع، أيضا، أن أتفق تماما مع الدكتور يحيى إبراهيم عبد الدائم، مؤلف الكتاب، عندما قال: "أنه إن أراد أن يستكشف الحقيقة حول حياته، وأن يصفها، ولم يكن لديه من طريقة لإيجاد هذه الحقيقة إلاّ بأن "يمنح الحقائق المتفرقة المشتتة من حياته شكلا شعوريا، أي شكلا رمزيا". ولذا أدرك جوته أن الترجمة الذاتية، شكل من أشكال الذاكرة الرمزية.. وأن الرواية الحقيقية عن الإنسان، أمر بعيد التحقيق.." و جوته أيضا هو من قال: " أنا لم أغير شيئا يتعلق بما أعمله، ومع ذلك، لابد أن أكون قد غيرت أشياء كثيرة من غير علمي!". وأن (جورج مور) كان صادقا حين قال: "أن المرء ليطالع ماضي حياته، مثلما يطالع كتابا قد مزقت بعض صفحاته، وأتلف منها الكثير.. ".

ولكن أنا أعتمد كثيرا على ذاكرتي، بل وأثق جدا فيها، ولكن لا يعني أن أسقطت بضعة أحداث أنني نسيتها، لكن لأنه ليس من المناسب ذكرها فهي لا تفيد، أوقد تجرح شيوخا كانوا يوما ما شبابا! فهي تمس آخرين وهي حق لهم أن يحتفظوا بها، أو يتناسوها. وفي كل الأحوال أنا لا أدعي أبدا أن سيرتي مهمة، فهي مجرد سيرة إنسان يحاول بالسبل كلها أن يكون صادقا مع نفسه قبل أن يكون صادقا مع الآخرين. هذه سيرتي أنا، وهذا ما حدث.. وكثير منها ورد في كتاباتي السابقة. ودعني يا صديقي أحدثك عن الطائر الذي لا يحب الضجيج، قبل أن يسرقني منك النوم:

" في مايو يعود طائر العندليب من هجرته السنوية من صحراء جنوب أفريقيا، يعبر مصر، ينحرف نحو غرب المتوسط ويحط على جبل طارق. رحلته الطويلة هذه تصاحبها سيمفونية مذهله تعزفها ذكور العنادل. ليس الذكور كلها موهوبة في الغناء؛ علماء الطيور يؤكدون أن المتميز منها هو فقط من سمع في صغره تغريدا جيدا من كباره. من لم يحظَ في نشأته بمعلم يجيد الغناء، لا يستطيع أبدا مجاراة الجيدين من المغردين في السرب، هكذا يقول العلماء. ويقولون، أيضا، أن هذه العصافير تغني بصوت أقوى عندما تمر فوق المدن! إنها لا تحب الضجيج. ولكن فسحة الشقة 63 هادئة، ولذلك كثيرا ما تنخفض طبقة غنائها عندما تمر من فوق رأسي مباشرة.

في رحلتها تلك، تمر العنادل ليلا من فوق رأسي فأُتطلع إليها، ومن فوقها السماء، مستمتعا بهذه السيمفونية العذبة من التي وهبها الله إلى من علمها في صغرها غاية وجودها!".
مع انبلاج الفجر يتباعد تغريدها وتتلون حافة الأفق بالشروق. تلك الليلة كنت قد عُدت من صلاة فجر ليلة من ليالي أواخر شهر رمضان. رمضان حقيقي، يا صديقي وليس رمضان الجاهلية. كان صوت المُقرئ نقيا وجميلا، أُخذت به وبالآية الكريمة التي لم أنتبه إلى حكمتها من قبل، ولو أنني تفكرتُ فيها لَماَ تألمتُ من تلك المشاحنات المؤلمة التي تخنقني عندما أختلي بنفسي من بعد جدل مقيت وشجار مع من أحترم: {وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِم مِّنْ غِلٍّ تَجْرِي مِن تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَـٰذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلَا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ}. الجنة إذن، لا غل فيها ولا كراهية، اي أن الحياة الخالية من الغل والحقد تجاه مخلوقات الله كافة هي الجنة.

وتذكرت بطرس عندما سأل السيد المسيح: "يَا رَبُّ، كَمْ مَرَّةً يُخْطِئُ إِلَيَّ أَخِي وَأَنَا أَغْفِرُ لَهُ؟ هَلْ إِلَى سَبْعِ مَرَّاتٍ؟ " أجابه يَسُوعُ: "لَا أَقُولُ لَكَ إِلَى سَبْعِ مَرَّاتٍ، بَلْ إِلَى سَبْعِينَ مَرَّةً سَبْعَ مَرَّاتٍ".

وأنا، يا صديقي مُسامح بطبعي لمن لا يستحقون السماح، ولا أحمل غلا في قلبي لأحد، فما بالك بمن زعلت منه نتيجة سوء فهم تطور إلى جدل، بسبب حالة لم أنتبه إلى أهميتها طوال سبعين عاما. لم يكن زعلا حقيقيا، ولذلك لم أحمل له غلا، حتى بعد أن تجاهل عذري، فهو من رفاق طفولة الزمن الجميل ومن عائلة أكن لها الخير كله، ومن شارع تسمى بها وأفنيت فيه أجمل وأنقى أيام طفولتي. فعندما تجد لأخيك عذرا، تأكد أن الأيام لن تكسرك أبدا.