Atwasat

العَـوْدُ أحمد

نور الدين السيد الثلثي الإثنين 07 أكتوبر 2019, 12:11 مساء
نور الدين السيد الثلثي

باندحار الطليان، ورغم الأمِّـيّة والفقر المستحكِمَيْن، لاح الأمل في أن يكون القادم أفضل. انطلق العمل الوطني لنيْل الاستقلال وبناء الدولة على أيدٍ تنقصها الخبرة والدُّربة في الحكم والإدارة والسياسة، والمالُ بأيّ قدر، ونجحت. تلك كانت أيديَ أمينة.

سلَك العمل لنيْل الاستقلال وبناء الدولة مساريْن متوازييْن في شرق البلاد وغربها بحكم إرث التاريخ وحقائق الجغرافيا، التقيا حول هدف جمع أجنحة الوطن رغم الاختلافات والخلافات. انتهت تلك المرحلة سنة 1951 باستقلالٍ ناجزٍ في إطار اتحادٍ يحتوي اختلافاتِ وخصوصياتِ الأقاليم، يضمن حقوقَها وحقوق المواطنين، يُبعد الشعور بالغبن، ويُزيح جانباً احتمالات عسفِ المركزية والتهميش.

حلّت الدولة الموحّدة البسيطة محلّ الدولة الاتحادية سنة 1963، من غير مناقشة عميقة كان حريّاً أن تُدار حول مثل ذلك التحول الكبير. رحل العهد الملكي وحلّ عهد سبتمبر، فتحوّلت الدولة خلال سنواته الطويلة إلى مركزيّةٍ صارمة قاسية، كان أمن النظام دافعاً رئيسياً لظهورها. تهمّشت الأقاليم، وأُرهق الناس في سعيهم لقضاء مصالحهم والحصول على حقوقهم. زاد الأمرَ سوءاً أن إنفاق الدولة في تلك الحِقبة، من خلال برامج التنمية على وجه الخصوص، استُعمِل أداةً لمعاقبة مناطق ومدن ومحاباةِ أخرى، كلٌّ حسب ولائه للنظام أو عدائه له. يشهد على تلك السياسة بؤسُ مدنٍ ومناطقَ والازدهار النسبي في أخرى قبيل أفول عهد سبتمبر، وهي التي كانت قبله في أحوال متشابهة.

نجحت ثورة فبراير، ومعها التدخل العسكري الأجنبي، في إسقاط النظام بما فيه من ظلم واستبداد وسوء عيش، وفشلت فشلاً ذريعاً في بعث نقيضه من حريةٍ وعدل وكرامة وجودة عيش.على العكس من ذلك، وجد الكثيرون الفرصةَ مواتيةً - بإسقاط الدولة نفسِها ومعها مؤسساتُ الأمن والنظام العام وتعطيل القضاء - لنهبِ المال العام، والاستحواذِ على السلطة، وتحقيق غاياتٍ أيديولوجية وافدة، والانتقام، والتعصّب لمدينةٍ وقبيلة. سقطت الدولة واشتعلت حروبٌ كان للأجنبي فيها دورٌ محوري. مات مَن مات، وأثرى من أثرى، وغادر إلى بلاد الله الواسعة من غادر، بأهله وما اكتسب. "هي بلاد ينقعد فيها؟" قال أحدهم من مهجره اللندني القديم الجديد، رداّ على سؤال: "يصير تخلّي وراك شباب كانوا عابيين عليك؟"

في الشرق كان أبرزَ الأحداث موجةٌ عاتية من الاغتيالات والتخريب، تلتها مواجهاتٌ كبرى بين جماعاتٍ رفعت شعاراتٍ متطرفةً أرادت فرضها بالترهيب وقوة السلاح من جهة، ونواةٍ للجيش تأسست بهدف القضاء عليها من جهة أخرى. كانت حرباً طاحنة استمرت أكثر من أربع سنوات، سقط فيها آلاف الشهداء، ولحِق الدمار بوسط المدينتين العريقتين بنغازي ودرنة. هُزمت تلك الجماعات، وفشل فكرُها في إضعاف روح "ميثاق الحرابي"، التي بقيت هادياً لإعلاء مصلحة الوطن فوق ما عداها، وإن فتر تأثيرها بسبب المتغيرات المجتمعية على مدى العقود الماضية.

أُبرم ميثاق الحرابي بين عُمد ومشايخ قبائل الحرابي وأعيان مدينة درنة يوم 18 أبريل 1946، متعهّدين: "بإيقاف كل خصومة وكل نزاعٍ بيننا، فلا نسمح بإثارة فتنة قديمة أو جديدة، ولا نسمح بالمطالبة بحق قديم... رغبةً منا في جمع الكلمة وتأليف القلوب... وتوحيد المجهودات... حتى يتقرر مصير البلاد وتؤسَّس فيه حكومة وطنية وتنظم أمورها وتستقر أحوالها." في روح ميثاق الحرابي ومبادئه اليوم مثلٌ سامٍ جديرٌ بأن يُحتذى.

اختلف مسار الأحداث في غرب البلاد عنه في شرقها، بحكم اختلافات الحقبة التاريخية القريبة، ودينامية العلاقات الناتجة عن أحداث فبراير والسنوات التالية لها، وآثار فِتنٍ قديمة لم ير البعض غضاضةً في إحيائها. الغرب يحتضن العاصمة بمزيجها السكاني القادم من كل أنحاء البلاد، وفيها مؤسسات الدولة الممسكة بالسلطة والتصرف في الثروة، وتشكيلاتٌ مسلحة متعدّدة الولاءات والقيادات. في العاصمة طُلّابُ المال والسلطة، وصراعاتٌ تُستخدَم فيها كلّ الوسائل بما فيها قوة السلاح، وخرق القانون، والتهاون في صوْن الأصول والممتلكات، وتهريبُ كلّ ما له ثمن. بسْطُ الأمن والاستقرار توطئةً لإعادة بناء المؤسسات لن يكون بالأمر اليسير.

الجنوب هو الأكثر بؤساً على الإطلاق. دخله المهاجرون والفارّون من بلدانهم طلباً للعمل أو عبوراّ إلى حيث يطمعون في العيش بأمان. الجنوب كان محلّ إهمالٍ من كلّ الحكومات وتنكّرٍ لمواطنيه في أبسط مقوّمات حياتهم وحقهم في الحماية من الجريمة والعدوان. الجنوب هدفٌ للطامعين في اقتطاع ما يستطيعون من أرضه ووضع اليد على خيراته. الخطر عظيم على الأرض والأمن والموارد والمواطنين، وهو محدِقٌ بالوطن من أوسع أبوابه وأضعفها حماية. لم يكن الردّ بحجم الخطر. أما الإعداد لمواجهة التهديد الديموغرافي القادم لا محالة، فلا ذكر له في دوائر سلطةٍ مشغولة بما بين يديها.

تبايناتٌ هامة بين إقليمٍ وآخر فرضت نفسها على حياة الناس ونظرتهم إلى طبيعة القضية الوطنية، كلٌّ من واقع ما يعيشه في إقليمه أو مدينته، ومن زاوية ما يستقبله من تأجيجٍ قبيحٍ وتحريضٍ غيرِ مسؤول. نحن أمام أمرٍ واقعٍ من التصدّعات الإقليمية والشروخ الاجتماعية التي لا يمكن القفز عليها متوقّعين نجاحاً في بسط الأمن والاستقرار في كامل البلاد طبقاً لذات المعادلة وذات نَسَقِ وأدواتِ تطبيقها. النجاح في بسط الأمن والاستقرار يتطلّب وضعَ برامج تُحدَّد مضامينها وجداولها وأدواتها طبقاً للواقع الماثل في كل إقليم أو منطقة.

يحمل الواقع في طياته - فوق مآسيه ومرارته - مخاطرَ تقسيمٍ حقيقية لا يصحّ إنكارها، قد تذهب بالوطن إلى ما هو أبعد، منذِرةً بضياعه بعد أن سقطت الدولة. صوْن ليبيا كوطن يدفع بقوة نحو العودة إلى الفدرالية شكلاً للدولة، واعتماد قواعد ثابتة قانوناً لإدارة الموارد وبرامج التنمية تضمن التوزيع العادل للثروة والرقابة عليها.

في مسيرة بناء دولة الاستقلال الأوّل وما بعده عِـبَر، لعلّ في العودة إليها ما يحول دون الانزلاق نحو تقسيم الوطن تقسيماً قد يظَـن البعض فيه خلاصاً من محنةٍ أنزلناها به.