Atwasat

فضاء نقد النقد. (2-2)

محمد خليفة الإثنين 07 أكتوبر 2019, 12:09 مساء
محمد خليفة

ثانيًا. علاقة الأصول بالفروع في قضية العقل.
خاض طرابيشي ضد الجابري معركة من النوع الذي ظهر بمناسبة استخدام المسلمين للمنطق كأداة إغريقية الأصل؛ ففريق من فقهاء المسلمين اعتبروا "المنطق" من عالم الضلال والضالين، ومن هولاء ابن تيمية، أما الفريق الآخرفقد اعتبر "المنطق" أداة من الأدوات التي يمكن استخدامها دون اعتبار لأصلها الأجنبي، فتذكية الذبيحة يمكن أن تكون بسكين تعود ملكيته لغير مسلم، لأن السكين أداة محايدة وقيد الاستعمال للجميع دون تفرقة بين مسلم وغير مسلم. وبذا يكون المنطق مثل السكين، مجرد أداة، وإن كانت أصوله غير إسلامية. ابن حزم وابن رشد ممن يرى هذه الرؤية. وبالرغم مما سلف يمكن أن يكون المنطق سيفا أو سكينا ذا حدين، غير أن المقام لا يسمح بأكثر من هذا المقال.

الأداة التي سببت الاختلاف بين طرابيشي والجابري هي تمييز المفكر الفرنسي اندريه لالاند بين "العقل المكوِّن" و"العقل المكوَّن"، وحسن، أو سوء، استخدام الجابري لهذا التمييز كأداة إجرائية لفتح الباب أمام نقده للعقل العربي. ولفهم مقدمات ونتائج "النقد" و "نقد النقد"، لابد من تبيان الفرق بين "العقل المكوِّن" و"العقل المكوَّن" بمفردات مبسطة، وعلى النحو التالي: 1) العقل المكوِّن.

و الخاصية التي يتميز بها العاقل عن المجنون والإنسان عن الحيوان. هذه الخاصية/ الملكة هي ما تجعلنا ندرك أن النار تحرق، ومن هذا الادراك نستنتج أن أي شيء ذي قيمة وقابل للاحتراق يجب أن يظل بعيدًا عن النار! 2) العقل المكوَّن. هو جملة القواعد المستخلصة بالعقل المكوِّن، مثل قابلية البنزين للاحتراق، وضرورة أن يظل بعيدًا عن النار حتى لا تحدث كارثة.. وهكذا!

وتكمن معضلة طرابيشي والجابري (والناس أجمعين) في أن العقل المكوِّن واحد عند كل البشر، أما العقل المكوَّن فهو متعدد ومختلف. ومن ذلك الموقف من لحم الخنزير مثلاً، فهو عند المسلم رجس، وعند غير المسلم لحم مثل غيره من اللحوم. ما الذي كوّن العقل المسلم على رؤية أن لحم الخنزير "رجس"؟ هل هو كلام الله (القرآن) أم الله ذاته؟ وأيما كانت الإجابة هل يجوز أن نقول أن الله هو العقل المكوِّن للعقل المكوَّن عند المسلم؟ وهل يجوز أن نقول أن العقل المكوِّن عند الإنسان هو جزء من، أو متصل، بالعقل الأول أو العقل الفعال؟

جوهر القضية بالتالي هو: هل يجوز تأليه العقل؟ هل يجوز وصف الله بأنه عقل؟ هذا هو السؤال القديم المتجدد، وهذا هو عقدة العقد في ما بين الجابري وطرابيشي من اختلاف، لكن لا أحد يصرح بذلك! طرابيشي يؤله العقل والجابري لا يستطيع ذلك، وإن رأى أو أراد ذلك..!

عند المسلم "العقل" ليس من أسماء الله الحسنى ولا من صفاته الواردة في القرآن، وبذا لا يجوز للمسلم أن يجعل من العقل إلاهًا، أو أن يعرّف الله على أنه عقل محض مثلاً، أو يقول الله هو العقل المكوِّن للعقل المسلم أو أن عقل الإنسان متصل بالعقل الأول أو هو جزء منه.

الفلسفة الإغريقية وهي أم الفلسفة الأوربية الحديثة تدور حول هذه المعانى والإشكاليات! ولكن خارج الدائرة الإسلامية فقط يؤله العقل، وتوجد عبادة العقل أو تحويل العقل إلى صنم يُعبد Idolatrie de la raison. العبارة الفرنسية لا تدل على مجرد عبادة العقل وإنما على أن العقل قد أصبح صنما يُعبد. (طرابيشي، نظرية العقل، ص 27).

يذهب طرابيشي إلى هذا الحد ضمنًا، ودون تصريح، ويمكن قراءة ذلك بشيء من الصعوبة في بعض نقده للجابري، ومن ذلك قوله أن الجابري "فوت على نفسه فرصة لتطوير موقف نقدي فعلاً من هذا العقل [المكوَّن]، أي موقف ينطلق من المواقع المتقدمة للعقل المكوِّن ليسجل ضربًا من السبق و"التعالي" على العقل المكوَّن وليراه بضرب من الاسترجاع، في نسبيته وتاريخيته بوصفه عقلاً لحقبة تاريخية محددة لا للتاريخ، عقلاً لحضارة بعينها لا للحضارة، عقلاً أسيرًا لمعطياته ومرشحًا بالتالي لأن يتجاوزه العقل." (طرابيشي، نظرية العقل، ص 12)

بعبارة بسيطة؛ ما تقوله الفقرة السابقة هو أن الجابري قد أخفق في أن يجعل من العقل إلاهًا يتعالى على العقل العربي-المسلم (العقيم) الذي تجاوزه التاريخ (لأن الله والعقل والتاريخ شيء واحد، عند هيجل ومن لف لفه). وإخفاق الجابري هذا مرشح لأن يتجاوزه العقل أو التاريخ مرة أخرى، لأنه جزء من العقل المكوَّن لانتلجنسيا عربية أصابتها حالة "عصاب جماعي" بعد هزيمة 1967. وحالة العصاب الجماعي هذه هي السبب في رواج كتب الجابري (هكذا يرى طرابيشي الأمور في "نظرية العقل"، ص 21)!

ما ينقمه طرابيشي على الجابري هو عدم تأليه الجابري للعقل، بالرغم من أن هذا الأخير لم يكن بعيدًا بما يكفي لنفي ذلك. ولم يخفق طرابيشي في أن يرى هذه الرؤية لاسيما عند توقفه عند قول الجابري " التفكير في العقل درجة من المعقولية أسمى بدون شك من درجة التفكير بالعقل". ما ينقمه طرابيشي على الجابري هو عدم وضع الجابري للعقل موضع الإله بشكل حاسم وكما يتمنى طرابيشي، لأن لا شيء غير تأليه العقل سيكفي لإلغاء الإسلام باعتباره –تاريخيًا- حضارة بائدة، وبشكل نهائي، مثل الحضارة البابلية أو الفرعونية. ومن يدرك معنى التماهي في الفكر والحضارة الأوربيين لا يمكن أن يستغرب موقف طرابيشي هذا، لأنه نسخة عربية من الموقف الأوربي تجاه الإسلام.

بالنسبة لطرابيشي، كصاحب رؤية أوربية للأمور؛ تعتبر الظاهرة الإسلامية المعاصرة ظاهرة مرضية سببها نكوص الانتلجسيا العربية إلى التراث [الإسلام] بعد الهزيمة في سنة 1967 (ص 21، نظرية العقل). ولطرابيشي كتاب في هذا المعنى عنوانه "المثقفون العرب والتراث: التحليل النفسي لعصاب جماعي" (منشورات رياض الريس). وما دمنا بصدد كتب طرابيشي التي تجعل المسلمين (أو الإسلاميين) في مصاف المرضى فلا مناص من ذكر كتابه الآخر "المعجزة: أو سبات العقل في الإسلام"!

ما سبق يعطيني انطباعا بأن طرابيشي لا يحمل ودًا، أو احترمًا، للإسلام وأهله، وموقفه السلبي منهما موقف لا يمكن أن نقرأ أسوأ منه عند أشد المستشرقين عداءً للإسلام. هذا هو مقدار تماهي طرابيشي في الفكر الأوربي. وهذا التماهي الذي حققه طرابيشي عن وعي يحققه بعض المنتسبين للإسلام عن غير وعي. وهنا نجد أنفسنا مرة أخرى أمام الأيديولوجيا بما هي "وعي غير واع"، فالكثير من المنتسبين للإسلام يقفون منه موقف طرابيشي ليس لأنهم بدلوا دينهم وأصبحوا على دين طرابيشي، وإنما لأنهم من نفس أيديولوجيا طرابيشي!