Atwasat

المثقف وفن النشاز

سالم العوكلي الثلاثاء 01 أكتوبر 2019, 01:31 مساء
سالم العوكلي

في حوار يجريه طلاب إحدى الجامعات الأمريكية مع ثلاثة من المشاهير كان ضمنهم الممثل، جيف دانيلز، طرحتْ إحدى الطالبات سؤالا وطلبت من كل واحد منهم الإجابة بجملة واحدة: هل بإمكانكم إيضاح لماذا أمريكا أعظم دولة في العالم؟

أجابت الضيفة: التنوع والفرص. بينما قال الضيف الثاني: الحرية ثم الحرية ولنبقَ على هذا النهج. وحين انتقل السؤال إلى الممثل المثقف والمشاكس، جيف دانيلز، كان لابد للطاولة أن تُقلب وللقاعة المكتظة أن ترتبك.

بأداء مسرحي مذهل قال جيف: لسنا أعظم دولة في العالم.. هذه إجابتي. وعم القاعة صمت مطبق وأُسقِط في يد مدير الحوار، ولأن تحطيم المُسلّمات يحتاج إلى عُدّة هدم استطرد جيف بعد أن قاطع محاولة احتجاج مدير الندوة قائلا: نعم ... لنتحدث عن «شارون» جمعية الإعلام الوطنية؛ ليست إلا مجموعة من الفاشلين وهي قائمة بفضل ما ندفعه نحن الإعلاميين، ولكن بإمكانهم محاربتنا في أي وقت، فالأمر لا يكلف مالا بل يكلف أصواتا، وبثا مباشرا أو حتى عمودا صحفيا بعرض إنش. هل تعلمين لماذا يكره الناس الليبراليين؟ لأنهم يفشلون. إذا كان الليبراليون أذكياء فلماذا يخسرون دائما؟! وعند هذا الحد قاطعه مدير الندوة: هل تقول للطلاب بكل بجاحة بأن بزوغ نجم أمريكا لا يعود لكوننا الدولة الوحيدة في العالم التي بها حرية؟ وحينها ارتفع صوت جيف قائلا: كندا بها حرية، اليابان بها حرية بريطانيا.. فرنسا.. ألمانيا.. إيطاليا.. إسبانيا.. أستراليا.. بلجيكا بها حرية. يوجد قرابة 180 دولة تكفل الحريات من أصل 207 دولة ذات سيادة. وحين حاول المدير مقاطعته من جديد، تجاوزه بقدرته على رفع الصوت أو خفضه في الوقت المناسب متوجها إلى صاحبة السؤال: حسنا.. أنت يا فتاة «النادي النسائي» إذا حدث بالخطأ أن تساءلتِ أمام صندوق الاقتراع .. فهناك أشياء يجب أن تعرفيها أولا؛ أحدها أنه لا يوجد دليل حقيقي على قولك بأننا أعظم دولة في العالم.. فنحن الدولة السابعة على مستوى الأمية، والـ27 في الرياضيات، والـ22 في مستوى العلوم، والـ46 في معدلات الحياة، والـ178 في معدل وفيات الرضع، والدولة الثالثة في متوسط دخل الأسر، والدولة الرابعة في مجال القوى العاملة، والرابعة في التصدير. نتصدر العالم في 3 أشياء فقط. معدل المساجين بالنسبة لعدد السكان، وعدد البالغين الذين يؤمنون بوجود الأشباح، ومصروفات الدفاع، حيث ننفق على الدفاع أكثر من الدول الـ26 التي تلينا في الترتيب مجتمعة، وكلها حليفة لنا ما عدا واحدة. هذا كله ليس خطأ فتاة جامعية في العشرين من عمرها، ولكنك، على الرغم من هذا، تبقين فردا؛ من جيل من أسوأ الأجيال التي مرت بها البلاد. لذا فحين تسألين: ما الذي يجعل منا أعظم دولة في العالم؟ فلست أعلم بالضبط ما الهراء الذي تتحدثين عنه. عن «يوسامتي» مثلا؟. وعم القاعة هرج عقبه صمت من جديد بينما الكاميرا تتفحص وجوه الطلاب المذهولين وهي تتهشم أمامه مُسلّمة لم يشكوا فيها يوما، لكن الأرقام التي تحتفظ بها ذاكرة ممثل تدربت على حفظ الحوارات كانت تقوض بقوة هذا اليقين.

وكي يخفف الممثل الكبير جيف وطأة الصدمة، قال بصوت منخفض وحزين: كنا الأعظم في وقت مضى. عندما كنا نقف مع الصواب، وحينما كنا نحارب من أجل أسباب أخلاقية حقيقية. كنا نلغي قوانين ونمرر أخرى لأجل أسباب أخلاقية فعلية، كنا نشن الحروب على الفقر وليس الفقراء.. كنا نضحي ونهتم لأجل جيراننا.. كنا نعطي أموالنا لمستحقيها.. ولم نَدُسْ على قلوبنا قط.. بنينا أشياء عظيمة.. وحققنا معجزات تكنولوجية إنسانية.. استكشفنا الكون وعالجنا الأمراض.. رعينا أعظم فناني العالم وأعظم اقتصاد في العالم.. وصلنا للنجوم.. وتصرفنا كبشر حقيقيين.. كنا وجهة للعقول المستنيرة ولم يحصل أن قللنا من شأنها أو شعرنا أمامها بالنقص.. لم نعرف من نحن حقيقة ونحن نُصوِّت في الانتخابات الأخيرة، ولم نكن نخاف بسهولة كما الآن. لقد كنا قادرين في يوم ما على أن نكون كل هذه الأشياء مجتمعة لأن رجالا عظاما قد بينوا لنا كيف نقوم بذلك. الخطوة الأولى لحل أي مشكلة هو إدراك وجودها أولا. أميركا لم تعد أعظم دولة في العالم. هل تكفي الإجابة؟

بغض النظر عما إذا كان هذا العرض معدا له مسبقا أو عفويا، ورغم أن جيف قال إن أمريكا ليست أعظم دولة، وإن ثمة دولا سبقتها في معدل الحريات، إلا أن ما قيل هو المهم، وأن هذا المناخ الحر ــالذي أتاح فرصة له ليتحدث لطلاب جامعيين داخل أمريكا ويهجو الأمة التي يحبها، ويحب فعلا لو أنها حافظت على القيم التي تجعلها أعظم دولةــ هو ما جعل ويجعل أمريكا في الواجهة. جيف هجا دولته بشراسة لكنه لم يُشتم من الغوغاء في مواقع التواصل، ولم يُطرد من نقابة الفنانين أو الممثلين، مثلما يحدث في الدول التي استثناها في حديثه بالأرقام عن 180 دولة تكفل الحريات من 207 دولة ذات سيادة. لا أعرف الدول الـ27 التي استثناها من الحرية لكني متأكد أن من ضمنها 22 دولة عربية.

ذكرني هذا الحديث المربك لليقين وما يبنى عليه بندوة أقامها ذات مرة مركز جهاد الليبيين حول القائد العسكري صلاح الدين الأيوبي، ووجهت دعوة للمثقف والمفكر يوسف القويري الذي حضر وجلس في هدوء، لكن مدير الندوة أصر على مشاركته في الحديث، وتكلم القويري كأي مثقف حقيقي يغرد خارج السرب المحتفي بالقائد، موجها اللوم لمعدي الندوة في اختيارهم لهذا النموذج العسكرتاري الذي نكل بمثقفي عصره للتكريم والحديث عنه، بينما التكريم يليق بضحاياه من النخبة والعلماء والناقدين الذين ذكر بعضهم بالاسم. كان القويري في تلك اللحظة وهو يتحدث لا يرى سوى نموذج القذافي أمامه ولا يرى سوى ضحاياه من المثقفين والمبدعين الذين شنقوا أو سجنوا أو لاذوا بالمنافي.