Atwasat

هرطقة / زندقة!؟

صالح الحاراتي الأحد 29 سبتمبر 2019, 12:40 مساء
صالح الحاراتي

في خضم الصراع والتناوش والعبث في مشهدنا الليبي وفي حضرة تكدس المصطلحات، وبشيء من الانتباه والتدقيق، يتبين لكل ذي بصيرة أن هناك تلبيسا ممنهجا وعن قصد لمصطلحات يتم استحضارها من التراث كالزندقة والهرطقة والخوارج وغيرها لاستخدامها في الصراع السياسي بحيث يتم إلحاقها بكل مخالف أو معارض للسلطة القائمة، وأيضا لتوصيف الجماعات الجهادية المتطرفة والإرهابية بينما حقيقة الأمر في تقديري غير ذلك، فالزندقة والهرطقة من المصطلحات التي تستحق شيئا من تسليط الضوء حولها حتي يتبين ذلك الخلط المتعمد.

الهرطقة كلمة يونانية – أطلقت في بيئة مسيحية وتعني باختصار أي فكر يؤمن به شخص ما ويفضله على فكر الكنيسة، أي عندما تؤمن الكنيسة بفكر حسب إيمانها، ويأتي شخص بفكر آخر يفضله على فكر الكنيسة، ذلك ما تعتبره الكنيسة هرطقة.

أي أن الهرطقة مصطلح قصد به الإشارة إلى أي معتقد أو رؤية فكرية تتعارض بشدة مع المعتقدات أو العادات الراسخة، وخاصة المعتقدات الدينية.

وهناك مصطلح تاريخي مقارب وغالبا ما يوصف به من يؤيد مثل هذه الادعاءات أو يخالف برأيه واجتهاده، ما هو سائد في بلاد المسلمين، ويسمونه الزندقة وصاحبها بالزنديق، كما هناك أيضا من يقول إن زندقة هذه فارسية الأصل ومعناها الشخص المتتبع للزند أي الشروح القديمة «للأفستا» وهو كتاب «زرادشت» مؤسس الديانة الزرادشتية حيث يعتقد أنها أطلقت تاريخياً لأول مرة من قبل المسلمين لوصف أتباع الديانات المانوية أو الوثنية ومدعو النبوة، ولكن المصطلح بدأ يطلق تدريجيا على الملحدين ويطلقه البعض على كل من يحيا حياة المجون من الشعراء والكتاب وغيرهم.

لذا يمكن القول بأن الهرطقة والزندقة صنوان متشابهان ولكن الهرطقة ظهرت في البيئة المسيحية بينما استخدم لفظ الزندقة في البيئة الإسلامية.

السؤال في هذا المقام هو.. هل كل هرطقة أو زندقة تعتبر أمرا سيئا!؟

 أو خطيئة كبرى وإثم يستحق صاحبه القتل؟ أم أنه الاجتهاد والخروج عن المألوف والسائد من فهوم الذي قد يقود الإنسان في كثير من الأحيان إلى إيمان أعمق ومكانة أعلى بين أقرانه الثابتين على وضعهم.

وحتي لو كانت خطيئة، هل هناك حق أعلى من حق الإنسان في الحياة؟ هذه التساؤلات هي الدافع لكتابة هذه السطور

من السائد أن معظم الفقهاء بل عامة الناس يعتبرون أهل الهرطقة والزندقة خارجين عن الملة ويذهبون إلى وجوب قتلهم، ويقولون إن من يهتم بآرائهم هم في الأغلب من المستشرقين وأعداء الإسلام؛ بينما الهراطقة والزنادقة يرون أنفسهم على أنهم إصلاحيون أو مجددون بل ان منهم الذي يري أنهم يُنَقُّون العقيدة ويخلصونها مما شابها من فهوم خاطئة عبر السنين وأن فهمهم لها هو الفهم الأصلي الذي انحرفت عنه الأصولية السلفية.!!

الحقيقة التي أراها أن ما يحدث واقع للأسف هو الاتكاء على توصيف «المعارضين لأي حاكم» بالزندقة والهرطقة بغرض تصفيتهم والتخلص منهم، ولذا فإن ما يجب الالتفات إليه ليست آراء «الزنادقة والهراطقة» مهما حادت عن المعلوم والمألوف، ولكن جوهر الأمر هو شيوع فكرة وجوب قتلهم وإزهاق أرواحهم وذلك هو الجدير بالاهتمام ؛ فأولئك ليسوا إلا بشرا يحملون «رأيا شاذا» عما هو سائد في زمانهم ولم يذهبوا أو يتبنوا وسيلة العنف والإكراه لفرضه.. ويعتقدون أن محاولاتهم العقلية هدفها الإتيان بالجديد وهو بالطبع سيكون غريبا عما ألفه الناس من الآراء والتصورات الكلية عن الحياة والوجود.

وبما أنه من المعلوم أن رأس مقاصد الشريعة هو حفظ النفس وصون حق الحياة، ويفترض أن قدسية وحرمة النفس البشرية هي الأولوية التي يجب أن تكون حاضرة عند التعامل معهم، خاصة أننا نجد ممن يُعَدُّون هراطقةً لا يرون آراءَهم على أنها هرطقات كما أسلفنا بل هي اجتهادات راقت لهم يتمسكون بصوابها وأحيانا يتنازلون عنها ويتركونها بعد زمن ويعودون طواعية إلى ما عليه المجتمع من فهوم.

للأسف التاريخ يحدثنا أنه وتحت مسمي الزندقة والهرطقة، تم القضاء في أشنع صورة على كثير من العقول والقدرات البشرية من خلال ما سمي بالحكم على الزنادقة، ووجوب قتلهم رغم أن الحق في الحياة هو مبدأ أخلاقي يستند إلى الاعتقاد بأن للإنسان الحق في العيش، ولا يجب قتله على وجه الخصوص من قبل أي كيان آخر، وحق الإنسان في الحياة هو أخطر الحقوق وأجلها وأقدسها في جميع الشرائع والحضارات والأعراف والقوانين والدساتير. لأنه الأساس الذي تبني عليه بقية الحقوق.

ولكن ما حدث تاريخيا هو ما ذهبت إليه المذاهب الأربعة، التي ترجح القول الذي فيه التفريق بين مَن تاب قبل القُدرة عليه؛ ومَن أظهَر التوبة بعدَ القُدرة عليه, فيقولون تُقبل توبة الأول, ولا تقبل توبة الثاني، (بل يُقتل دون أن يُنظَر إلى توبته) وهو ما يحدث غالبا .

ولقد عشنا واقعا مشابها لما حدث تاريخيا في القرن الواحد والعشرين عندما ظهرت «داعش» للوجود وارتكبت المجازر على أرض الواقع وكيف تم انتهاك حرمة الأنفس البشرية بكل برود.

الأمر الذي يستحق لفت الانتباه له في هذه السطور هو الحديث بوضوح عن حق الحياة «حرمة النفس البشرية» ومدى تغلغل الرأي بقتل أولئك تحت حكم قتل المرتد الذي جادل فيه الكثير من المفكرين وأثبتوا أنه لا مرجعية في النص المقدس يسمح بانتهاك حرمة النفس البشرية، بل هي أغلى من أطهر بقاع الأرض.

الأمر في تقديري يتعلق بقيمة أخرى غائبة وجديرة بالاهتمام وهي وجوب مبدأ «قبول الرأي الآخر طالما لم يستخدم العنف ضد المجتمع لإجبار الناس على قبول رأيه».

ويبقى الأهم هو اليقين بأن المشكلة عبر التاريخ تكمن في الإفراط وتضخيم المساحة التي تجيز فيها منظومة الفقه لدينا قتل النفس البشرية بكل بساطة وتحت مسميات كثيرة عنوانها الجنوح للعنف في التعامل مع المختلف؛ وللأسف الشديد ظل ذلك مقبولا ومنتشرا بيننا، وتبناه من أشرفوا على تفسير النصوص، فامتلأت المتون والهوامش بسطور القتل وجعلوها ناسخة لآيات الرحمة والعدل والحوار والتسامح كقيم إنسانيه عادلة.

 لقد تمت التصفية الجسدية للكثيرين عبر التاريخ لما يحملونه من أفكار رغم أنهم لم يرفعوا سلاحا في وجه أحد.. وتم التشنيع بهم وتكفيرهم وكانت التصفية المعنوية والجسدية لرموز نفتخر اليوم بأنهم ساهموا في الحضارة الإنسانية مثل الرازي والكندي وابن الهيثم.. إلخ.

في تقديري؛ لا داعي للنظر للوراء لاستحضار مفردات القرون الوسطى لوصف حال بعضنا اليوم، /كلاب أهل النار/خوارج/ قرامطة/ زنادقة/ وما إلى ذلك.. يكفي أن نقول ونعترف بحقيقة أنهم.. «أناس من جلدتنا، عقولهم مكتظة ومكتنزة بمنظومة الجهل والتخلف».

* وأخيرا ومنعا للالتباس، أختم بالقول إن السطور أعلاه لا تدافع عمن حمل السلاح ومارس العنف لفرض رأيه وفهمه على المجتمع تحت أي مبررات.