Atwasat

المثقف الليبي: وماذا بعد؟!

سالم العوكلي الثلاثاء 24 سبتمبر 2019, 01:10 مساء
سالم العوكلي

أسهم المثقف والكاتب الليبي في تاريخ نضال هذا الكيان من أجل التحرر بشكل مباشر أو عبر كتاباته، كما أسهم في تأسيس هذا الكيان الليبي منذ بدايته، وطرح الكثيرون من الكتاب والمفكرين أسئلة هامة بشأن مستقبل البلد، وبشأن واقعه الاجتماعي. تصادم المثقفون مبكرا مع النظام السابق وأجهزته الأمنية، وغابوا بين التصفيات، والمنفى الخارجي أو المنفى الداخلي، والسجون، لكن نبض الحبر لم يتوقف، وصدرت، حتى إبان النظام السابق، مطبوعات ودوريات وكتب مهمة ترصد في مجملها الحلم الليبي، وتشاكس ثقافة المنظومة الدارجة بما صاحبها من تعبئة إعلامية، ومع قمع ومنع أية تشكيلات نقابية نوعية وجد الكتاب الليبيون المهمومون بالشأن العام أنفسهم فرادى، كلٌ يغني على ليبياه، ومع تقلص حجم توزيع الكتاب وحجم القراءة وجدوا أنفسهم غير قادرين على تشكيل وعي جمعي أو رأي عام، ومع بداية تقنية المعلومات انخرط الكثيرون في هذا العالم الجديد بعيدا عن أجهزة الرقابة التقليدية، العالم الرقمي الذي أسهم بشكل كبير في بداية الربيع العربي، لكن الكاتب الليبي المنخرط في السؤال السياسي وجد نفسه ــ بعد نهاية النظام ونجاح ثورة فبراير بأهدافها التي دفع الكثير من الكُتاب أثمانا باهظة من أجل أهدافها المعلنة ــ معزولا من جديد، وبعيدا عن الصراع الذي يجري أمامه، خصوصا بعد أن أخذ الحراك مسارات بعيدة عن أدواته السلمية وعن حلمه وأسئلته، عبر العنف، والصراعات القبلية والجهوية، والأجندات الداخلية والخارجية، والنزاعات الأيديولوجية فقيرة المعرفة والأهداف. وأثيرت أسئلة ساخنة عن دور المثقف في هذه المرحلة الانتقالية، أسئلة تنطبق على النخبة المثقفة في كل بلدان الربيع العربي؛ خصوصا حين وجدت هذه البلدان نفسها فاقدة للبوصلة بعد سقوط أنظمتها السابقة، وتظل تونس تجربة مختلفة لأسباب كثيرة أهمها: انتماؤها للفضاء الفرانكفوني المتجذرة فيه القيم الجمهورية، وأيضا ميراث الرئيس (المثقف) الحبيب بورقيبة الإيجابي الذي أسس لمجال عام تفاعلي ومجتمع مدني راسخ، استطاع أن يتجاوز الفوضى بالحوار وبالطرق السلمية.

انصب الحديث طيلة العقد الماضي عن المشروع التنويري العربي، وأثيرت اختلافات كثيرة حول ما إذا كان فعلا هناك مشروع تنويري عربي، أم كانت مجرد لمعات متباعدة لم تؤسس لمشروع موسوعي بحثي فكري حقيقي استطاع أن يؤسس لمناخ صالح لقيم الحوكمة الحديثة؟ بمعنى أن العقل العربي لم يتعرض لصدمات حقيقية تجعله يستشرف فضاءات معرفية تجعله في قلب مغامرة الحداثة. أتحدث عن التنوير العربي باعتبار أن ليبيا طيلة القرن كانت في تواشج مع النتاج الثقافي العربي، وربما ارتباط القارئ الليبي بالكتاب العربي أكثر من الكتاب الليبي، خصوصا في مرحلة الانفعال القومي الذي كان يمقت كل ما يتميز بخصوصية ليبية، وفي خضم هذه المرحلة غاب الكتاب الليبي وغاب الكاتب الليبي؛ داخل السجن أو في المنفى أو في الهامش الداخلي، هذا التجريف الذي حدث للنخب الوطنية فتح المجال لأدعياء كتابة ملئوا الساحة بالضجيج، وهنا حصل الانفصال بين المثقف الليبي الحقيقي وبين الشارع الذي فقد ثقته في كل ما ينتج داخل ليبيا باعتباره جزءا من مزاج النظام السابق، وهو حكم تعميمي وظالم، لأنه ظهرت في كل مراحل ليبيا كتابات وإبداعات هامة، تطرح أسئلة أصيلة بشأن الكيان والمجتمع والمستقبل والحريات والهوية، وغيرها من الثيمات التي من الممكن أن نطلق عليها إرهاصات مشروع تنويري، لكن ابتسار هذه المشاريع، وغياب التراكم، والفجوة التي انفتحت بين الشارع والمنتج الثقافي الليبي، جعلت هذه الأسئلة موضوع تداول بين النخبة، ولم تتسرب إلى العقل الشعبي أو الثقافة المجتمعية؟. وما حدث بعد فبراير أن الكاتب الليبي، الذي تعود أن يكون منفردا مفرداً، لم يجد مناخا جماعيا يشد من أزره، أو جسما أهليا أو نقابيا يعلن به عن حضوره في الصراع الجاري، واكتفى بعض الكُتاب بكتاباتهم المتفرقة والبعض لاذ بالصمت، وأغلبهم تعامل مع شبكة النت مكتفيا بآراء ارتجالية يلقيها هنا وهناك، وظهر على الساحة كُتّاب جدد لم نسمع بهم سابقا تكتظ بهم الصحف والقنوات، وبدأ انشغالهم بالشأن العام بعد تحرر ليبيا من النظام. وبالطبع ظهرت تابوهات جديدة تعيد تكرار المحرمات السابقة؛ اجتماعية ودينية وسياسية، تشكلت عبر الشرعية الثورية الجديدة التي ترفض النقد، أو عبر مؤسسة الإفتاء المنخرطة في السياسة، أو عبر الجماعات التكفيرية والفرق الناجية، وتعددت مصادر الخوف الغامضة لدى الكاتب الليبي وسط انفلات أمني وغياب شبه كامل للمؤسسات والتشريعات التي تحميه وتحمي المواطن بصفة عامة.

الكاتب المهموم بطبعه يتصادم مع بنى التخلف؛ سواء أكانت سياسية أو اجتماعية، والتخلف كما يقول الكاتب يوسف القويري يفرز مع الوقت مؤسساته التي تدافع عنه. الكاتب المشغول بوطنه ولحظته التاريخية من المفترض أن تكون له أسئلته الأصيلة فيما يخص الواقع الاجتماعي والثقافة السائدة، وهذه الأسئلة لا تنطفئ بمجرد نهاية نظام سياسي أو حقبة تاريخية، لأن العوالق والرواسب التاريخية فيما يخص القمع والعنف والإقصاء لن تزول بسهولة من أرضية هذا المجتمع وتكوينه السيكولوجي، فمنذ بداية انتفاضة فبراير وبمجرد إحساسنا أن هذا النظام في طريقه للزوال، كنا قلقين من مرحلة ما بعد زوال النظام، نتيجة تتبعنا للشأن العام ومعرفتنا بالواقع الاجتماعي الذي ينتج نخبة سياسية سترث في أغلبها معظم أمراض المرحلة.

عندما رأيت نهاية القذافي التراجيدية أول سؤال تبادر إلى ذهني: وماذا بعد؟ وهو سؤال سيظل ملحا لفترة طويلة.