Atwasat

ومضات متقاطعة (2): طيور الشوك

محمد عقيلة العمامي الإثنين 23 سبتمبر 2019, 11:31 صباحا
محمد عقيلة العمامي

رواية طيور الشوك "Thorn Birds" رواية صدرت سنة 1977 للكاتب "McC. Coleen" كانت حينها أفضل الكتب المباعة ثم أعد منها مسلسل تلفزيوني نال شهرة واسعة. يقول بطل الرواية أن: "طائر الشوك يعشق الغناء، يموت وهو يغني.لا شيء يرغمه على الموت، سوى قرار يتخذه، دونما سبب واضح. يبحث في إحدى الأشجار عن شوكة حادة يدفع جسمه الضئيل بها، وحين تنغرز به يصدح بأروع (أغانيه) وكلما مزقت الشوكة أحشاءه كلما زاد من روعة أدائه، وتفننه في غنائه، فيظل يدمى ويحتضر ويغني في آن واحد!".

دعني قبل أن أربط لك بين هذا الألم، و"إبداع" الطائر أعود بك أولا إلى سنة 2001 عندما جئتك برسالة (جنقي) التي كتبها إليك من مصر وطلب مني أن أسلمها لك، ولكنني نشرتها بصحيفة العرب قبل أن تصل إليك، فلقد كنت مأخوذا بروعتها ودقة انتقاءكلماتها. لقد عدت إليها عندما تذكرت كم كان يحبك؟ وكيف أنه يختلق لك الأعذار؟ من قبل أن تختلقها أنت مبررا، على سبيل المثال، لقاء لم تستطع تنفيذه!.

كان يحبك إلى حد يصعب تفسيره.

كنت في الواقع أريد أن أكتب لك رسالة مثل التي كتبها جنقي، فأنا أرى نفسي كونيس أخيك الأصغر من جنقي والأكبر قليلا من سنك، وليس علمك. ولكنني توقف، وأعدت ترتيب أفكاري، عندما وصلت، في رسالته، إلى تلك الفقرة التي قال لك فيها:

" لقد كسرتني الأيام
لكم هو موحش ذلك الشعور بالوحدة الذي يواصل الصفير إلى حد الصمم.. كم هو موحشُ أن تتعلق حميما بالآخرين ولا يكون في نهاية المطاف إلاّ أنت.. وكم هو موحش أن تتطلع أبدا للعناق ولا يكون ثمة سوى ذراعيك!!

لقد كسرتني الأيام
وامتلأ قلبي بالتجاعيد، وانتابني الوهن وعشعشت عناكب الحزن في صدري، ولم أعد أحلم سوى بموت مريح وهادئ..".

وعلى الرغم من الغم والضيق والحزن الذي يخلفه الإحساس بالوحدة من غياب الرفاق الذين تحس أنهم يعانقون وجدانك من دون ذراعين يطوقانك إلاّ أنني لم أفكر حتى بمساءلة غيابك أو أنني تكدرت من عدم مجيئك، والأهم من ذلك كله أنني لم أتحامل عليك، ولو لتخفيف خيبتي من بعد أن طال انتظارك، وأنا أرصف الذكريات والكلمات والحكايا لنستعرضها معا، ونتبادل على رأي جنقي "الأنخاب".. بالعكس! أخذتني أفكاري مع بضعة أنغام ورحلت إلى الماضي، وعدت منه بحقيقة كالشمس.. من بعد أن قارنت تلك الأيام، التي يكثر فيها الرفاق لدرجة أنني أتردد قبل أن أقرر أين تكون سهرة تلك الليلة، وبين هذه الأيام التي لم يعد فيها سوى شرفتي ورفيقة دربي والتطلع إلى غد مشرق عزيز.

هذه الليلة انتبهت إلى أنني أختلف، لأول مرة، مع جنقي في مسألة الأيام، التي كسرته. فأنا أعي جيدا أنه قالها في لحظات كان يتطلع فيها إلى من يسامره من أولئك الذين يحبهم ويحبونه.

جنقي لم تكسره الأيام. لقد عاش حياته "لا يطمع في شيء، ولا يرغب في شيء..لأنه إنسان حر!".

فما الذي كسره؟

الواقع أنه لا شيء كسره.. لا شيء على الإطلاق سوى شيء واحد. شيء لم أعه إلاّ بعد رحيله بثمانية عشر عاما، وما كنت لأنتبه إليه لو لم أختلِ بنفسي تحت سقف الله مباشرة، بلا حاجز.. بلا غيوم، في ليلة صافية كهذه الليلة لا نور فيها سوى وهج نجومه في سمائه الفسيحة الصافية.

هذه الليلة انتبهت إلى أن حالتي النفسية لا تختلف كثيرا عن حالته عندما قرر أن الأيام كسرته! ولكنني أدركت أنني لا أتفق معه أبدا. أما السبب أو الأسباب، فلنتاولها معا، وسوف أنطلق، من تفسير قاله لي ذات مرة مفاده: "أن خذلان من كنت تعتقد أنهم أصدقاؤك بمقدوره أن يكسر المرء.." ولكنني إن اتفقت معه حينها، لا أتفق معه الآن، وسوف أفسر لك ذلك في رسالتي القادمة.