Atwasat

عين الشمس وعيون الغربال

أحلام المهدي الأحد 22 سبتمبر 2019, 10:31 صباحا
أحلام المهدي

في بلاد الحقيقة الضائعة تضيع الأرواح وتسافر إلى السماء السابعة تاركة الأرض التي نبتت فيها، وبين جدران بيوتها ومساجدها تذبل براعم كانت يوما مزهرة وتتمزق شرنقات حب وسلام، قال الفيلسوف الفرنسي "برودون": "من مظاهر التقدم في المجتمع المنسجم المنظم ديمقراطيا أن المسافة بين الفرد والفرد تقصر كلما تقدمت المجموعة على طريق العلم والفن والحقوق"، من البديهي إذا أن المسافة تطول وتتسع كلما تأخرت هذه المجموعة عن مواكبة العلوم والفنون والحقوق.

لنعد بالتاريخ إلى أواخر العام 2011 والشهور التي تلته في عامين تقريبا ونتأمل حجم الخدعة الاجتماعية الكبيرة التي انطلت علينا فكذبنا كذبة وصدقناها لنقرر أن "الشعب الليبي كله خوت" بعد أن جمعنا كل مشاكلنا وأزماتنا في شوال واحد وعلقناه في رقبة النظام الراحل لتختفي معه للأبد.

ربط "برودون" العلاقة بين أفراد المجتمع الواحد بالعلم والفن والحقوق وهذا ربما يفسر الانهيار الكبير الذي حدث في البنية الاجتماعية للبلاد، فالمسافات الشاسعة التي تشكلت بين الليبيين حتى في العائلة الواحدة تترجم رداءة وتدهور كل مقومات الحياة في دولة لا يسافر مواطنوها إلا للعلاج، أو للهجرة واللجوء في السنوات الأخيرة، بلاد تقلص فيها عدد المدارس التي يخطو فيها الطفل خطواته الأولى نحو عالم الفنون والعلوم والحقوق أيضا، وتضاعف عدد المساجد ليشكل علاقة طردية مع عدد اللصوص وحجم سرقاتهم، لأن كبار القوم هنا يسرقون المليارات ويحاولون رشوة "الله" بدراهم، فيبنون الجوامع ويشيدون مراكز التحفيظ والكتاتيب التي تغير الأفكار والهيئات فيعملون بذلك لدنياهم "كأنهم يعيشون أبدا"، ويضيع الأطفال الذين يجبرهم أهلهم على الذهاب لتلك "الرشاوى" فيعملون فقط لآخرتهم "كأنهم يموتون غدا" ويختصرون الطريق إلى الآخرة دون أن يطرقوا أبواب المستقبل.

الليبيون ليسوا "خوت" إذا، وليسوا حراسا للقيم التي لا يكفون عن الجهر بها، والحقوق ضحية أخرى من ضحايانا، فالقوي هو من يحظى بها وإن اغتصبها من أصحابها، وعندما تضيع الحقوق تنتحر الحريات على أعتاب أصحاب النفوذ والسلطة والسلاح.

ما يحدث في ليبيا انفلات لا تلجمه نظرية ولا يلملمه فكر إلا بالمقلوب!

في "الجمالية الفوضوية" يعتبر منظرو هذا المذهب ومنهم "برودون" أن الفن تجربة، لا يؤمنون بالفنان الوحيد أو المبدع العبقري ويتبنون إزاء هذا الفن فنا جديدا يرى في كل فرد فنانا خالقا، إذا بالمقابل عندما تموت الفنون في مكان ما فإن الفوضى الهدامة ستكون سيدة المشهد، سيتحول الجميع إلى أعداء لكل مظاهر الحياة الطبيعية للبشر، وكل ليبي سيشارك في هذا العبث بطريقته، يبدو أننا نسير في هذا الاتجاه بقوة تفقدنا التوازن والتركيز وترسم ملامح القطيعة بيننا وبين هذا العالم الحي.