المراجعة النقدية، الأمينة والمدققة، للأعمال والمشاريع الفكرية يتمتع بأهمية قصوى في تنشيط الحركة الفكرية التي تجري في إطارها هذه المراجعات النقدية وتطوير الفكر المعني وتوسيع حدوده وآفاقه.

مؤخرا أتيحت لي فرصة قراءة كتابين في هذا المجال للمفكر والمترجم جورج طرابيشي* ضمن مشروعه النقدي لأعمال د. محمد عابد الجابري** الذي يدخل في نطاق "نقد العقل العربي". ووضع جورج طرابيشي عنوانا عاما لمجهوده النقدي هذا هو "نقد نقد العقل العربي".

لم أحظ في السابق بوقوع أحد كتب جورج طرابيشي في متناولي. وعند الشروع في قراءة ما تمكنت من الحصول عليه انشددت بشدة إلى أمانة ومسؤولية وعمق هذا المفكر المهم الذي، يبدو لي أنه، لم ينل ما هو جدير به من اهتمام.

فهو يقرأ مشروع الجابري، جملة جملة، قراءة مدققة فاحصة يعود فيها إلى المراجع والمصادر التي يحيل إليها الجابري، إضافة إلى مصادر ومراجع أخرى، باللغتين العربية والفرنسية (اللغة الأجنبية التي يسيطر عليها كلاهما). يقول في مقدمة كتابه "اشكاليات العقل العربي"1 الذي يمثل الجزء الثاني من مشروعه "نقد نقد العقل العربي": "إن أي مشروع لنقد النقد ينطوي لا محالة، في شق منه، على ضرب من الاسترقاق الذليل.

فليس لنقد النقد أن يصيب حظا من المصداقية ومن النجاح في إصابة هدفه ما لم يقيد الناقد نفسه بمنقوده ويحذوه بما يكاد يشبه حذو النعل بالنعل" (ص 7). إنه يقوم بعملية فلي وفرز وتمشيط للموضوع محل المراجعة لنكتشف معه، وعلى مسؤوليته، كثيرا من المغالطات (وليس الأخطاء) التي تعمدها الجابري بناء على الانطلاق من أفكار وتوجهات آيديولوجية وحتى تعصبية مسبقة، سعى صاحب مشروع "نقد العقل العربي" ليلائم نتائج مجهوده معها. كما يثبت طرابيشي من خلال تقصيه المضني أن الجابري يحيل إلى مصادر ومراجع لم يقرأها، وبالتالي لم ينقل عنها مباشرة وإنما من خلال مراجع وسيطة لم تتقيد بالنقل النصي، الأمر الذي يوقعه في أخطاء جسيمة.

في مقدمة كتابه "العقل المستقيل في الإسلام"2 وفي رده على الذين أخذوا عليه بذل "كل هذا المجهود" في الرد على مشروع الجابري في ‘‘نقد العقل العربي‘‘ بدلا من الانصراف "إلى إنجاز مشروع شخصي في قراءة التراث العربي الإسلامي" (ص9)، يقول: "... فالواقع أن الجابري قدم لي المناسبة، التكئة، نقطة الانطلاق، ولكن ليس إلى محطة الوصول. فقد كف مشروعي عن أن يكون مشروعا لنقد النقد ليتحول أيضا إلى قراءة وإعادة حفر وإعادة تأسيس. أو هذا ما أرجوه على الأقل" (ص 9). ويخلص إلى التأكيد على أن "نقد النقد ليس مجرد تفنيد وهدم. ومع ما يقتضيه من تفكيك، فإنه لا يؤتي مفعوله ما لم يرسِ رؤية بديلة، في المجال الذي نحن بصدده قراءة نقدية وعقلانية مغايرة ومجددة معا للتراث العربي الإسلامي" (ص 10).

الجدير بالذكر أن مشروع طرابيشي في نقد أعمال الجابري استغرقت، حتى صدور كتاب "العقل المستقيل في الإسلام خمس عشرة سنة!.

الملاحظات والمصادر:
* جزرج طرابيشي (1939م - 2016م).
** محمد عابد الجابري ( 1935 – 2010).
1- جورج طرابيشي، اشكاليات العقل العربي، دار الساقي، ط 4، بيروت- لبنان، 2011.
2- جورج طرابيشي، العقل المستقيل في الإسلام، دار الساقي، ط 2، بيروت- لبنان 2011.