Atwasat

الكل يعرف

جمعة بوكليب الأربعاء 18 سبتمبر 2019, 01:38 مساء
جمعة بوكليب

في صيف عام 1975 كنت طالباً بالسنة الثانية، بقسم اللغة الإنجليزية، بكلية التربية – جامعة طرابلس. عقب الانتهاء من الامتحانات النهائية وظهور النتائج، سافرتُ مع طلبة دفعتي والدفعة التي تسبقنا إلى بريطانيا في برنامج دراسي، بمدينة بورموث، جنوب غرب انجلترا.

اللوائح الدراسية بالكلية كانت تحتم قيام طلبة أقسام اللغات الأجنبية بقضاء فترة دراسية في بلدان اللغات التي يدرسونها. طلبة اللغة الانجليزية يوفدون إلى بريطانيا، وزملاؤهم في قسم اللغة الفرنسية يوفدون إلى فرنسا. في البداية، كانت فترة الدراسة بالخارج لمدة سنة دراسية كاملة. لكن في وقتنا تغير النظام، وصارت فترة الدراسة مدة أشهر الصيف لطلبة السنتين الثانية والثالثة، ثم ثلاثة أشهر في السنة التي تليها.

كان نصيب دفعتنا الإقامة في مدينة بورموث، والدراسة في منطقة بوول. كانت بورموث مدينة ساحلية صغيرة، ضاجة بالحياة، بشوارع تعج بالانجليز والسواح والطلبة القادمين من أنحاء العالم لتعلم اللغة الانجليزية. ورغم زياراتي إلى بلدان أخرى، كانت المرّة الأولى التي تقع فيها عيناي على عالم بألوان مميزة، وإيقاعات مفعمة بالحياة، ويتنفس هواء ثقافة مفتوحة النوافذ على جهات الدنيا الأربع، وبتاريخ استعماري طويل.

عقب انتهاء الدورة الدراسية، حزمنا حقائبنا وعدنا إلى قواعدنا في طرابلس، فوجدناها وقد خرجت لتوّها من معمعة صراع على السلطة بين القذافي وجماعته من أعضاء ما كان يسمى بمجلس قيادة الثورة، وانتهى بخروج القذافي منتصراً، وهزيمة الفريق الذي كان يقوده المرحوم الرائد عمر المحيشي. كنت سعيداً بعودتي إلى بيتي، لغتي، وسمائي، لكن شيئا ما، جديداً، تغيّر فيَّ، فكبرت مساحة خيالي، وضاقت به شوارع طرابلس.

عدت إلى مدينتي بتسريحة شعر جديدة، وحقيبة محملة بالهدايا للأهل والأصدقاء، ولم أنس نفسي، التي فضلّتها، وأهديتُها عدداً من الاسطوانات لعدد من الفرق الغنائية التي كنت أحب سماع موسيقاها وأغانيها، باستثناء واحدة لمغنٍ وشاعر معروف، لم أكن أعرفه، اسمه ليونارد كوهين، اشتريتها بناء على توصية من زميل، أكد لي أنني لن أندم على ذلك.

بالفعل، لم أندم، فيما بعد، على شراء الاسطوانة، لكني ندمت على عدم معرفتي بليونارد، من قبلُ، وبعالمه الشعري الجميل، وموسيقاه المميزة.

ليونارد كوهين كندي الجنسية، توفى مؤخراً عن عمر ناهز خمسة وثمانين عاماً. كان شاعراً، وروائياً، وملحناً، ومغنياً، وعازفاً من طراز فريد، وبنمط موسيقي مميز، وبخيال شعري دافق، مغموس في ماء ساقية بحزن ظليل، يحكي قصص عشق مؤود، ويراود أحلاماً نالها الزمن بسهامه. ومنذ ذلك الحين توطدت علاقتي به، وبأشعاره المكتوبة والمنشورة، وبموسيقاه.

جاء وقت انفصل عالمي ومشاغلي عن عوالم ليونارد. ووجدتني منساقاً للحاق بعربة الحياة المسرعة، بحثاً عن دنياي، وعن نفسي، ولغتي، وعن عوالمي، التي بدأت في التشكل، مؤثتة بعواطفي، وبقراءاتي، وإحباطاتي، وأحلامي، وانكساراتي، ورغباتي وطموحي في أن يكون لي جناحان يطيران بي إلى أعلى ما يمكن أن يطاله خيالي من طبقات في سموات ملونة.

الانفصال بيننا، أنا وليونارد، لم يكن طلاقاً بائناً. كان، من جانبي فقط، وأشبه بالوقوع، فجأة، في شراك غرام، جديد، سرق اهتمامي، وأعاد توجيه بوصلة قلبي نحو جهة أخرى. لكني كنتُ، من حين لآخر، أعود محمّلاً بحنيني إليه، كعاشق يحنّ إلى عشق قديم. ولم يكن زمني خالياً من المواجع، أو كان قلبي بعيداً عن مضارب الحزن والإحباط، ومحميّاً من ضرباتهما الموجعة.

في الفترة الأخيرة، شهدت شريطاً سينمائياً بعنوان: ميريان وليوناردو- كلمات حب، من إخراج نيك برومفيلد، يوثّق تاريخياً لعلاقة ليونارد بعشيقته، وحبيبته، وزوجته النرويجية ميريان ايهلن، فأعادني الزمن إلى ديار صديقي القديم ليونارد، لكني، هذه المرة، جئته بقلب كهل ومكلوم، وبأحلام محبطة كطائر كسير الجناح. هذه المرّة، قصدته طلباً للأنس والاسترواح بحثاً عن حياة أضعتها، ولتسكين آلام شجوني وأحزاني مما حدث ولا زال يحدث في بلدي وتحوّله، بين يوم وليلة، إلى ساحة حروب دموية، ضارية، زعزعت، تحت أقدامي، أرض إيماني بقدرتنا على بناء وطن، كما نشتهيه، حريص علينا، يسعُ لنا جميعاً باختلافاتنا، وبنا رؤوف رحيم.

لسوء الحظ، فإن الأحلام والطموحات ليس من طبيعتها التحوّل إلى واقع معاش. بعضها قد يكتب له التحقق، وبعضها الآخر يذوي، ويضمر، وينتهي مختفياً مخلفاً حرقةً في قلوبنا، وفراغاً في دنيانا. وهانحن، حالياً، كالشاطر حسن، في قصة ألف ليلة وليلة، يلهث مطارداً ست الحسن، نقف في مفترق بين طريقين: واحدة تقود إلى سكة الندامة وأخرى تقود إلى سكة السلامة. المؤسف أن الشاطر حسن كان يملك اتخاذ قرار أي طريق يسلك. لكن في حالتنا الراهنة، فإن خيارنا، مربوط في أيادي ومصالح من يعتلون سطح الأحداث، ويمسكون بمقاليد تقرير مصائرنا!

لذلك، ولغيره، لم يبق لي، سوى الجلوس، منصتاً، إلى ليونارد: "الكلُ يعرف أن المركبَ مثقوبٌ، وكذبَ الربَّانُ."