Atwasat

ومضات متقاطعة (1): الرسالة

محمد عقيلة العمامي الإثنين 16 سبتمبر 2019, 01:13 مساء
محمد عقيلة العمامي

القاهرة 6/ 8/ 2019
أخي يا صديقي مصطفى
البارحة بعد أن أيقنت أن مهامك الكبيرة حالت - كالعادة- دون بهجتي بحضورك. ومن بعد أن طال ترقبي لمجيئك، توحدت أنا والليل والعمر الذي لم يكن أبدا مزريا! عمر أكرمني به الله خالِ من العقد، والكذب والنفاق. عمر ما أردت منه شيئا سوى أن أنام ملء جفوني، من دون جدل مقيت مع نفسي؛ كأن أسألها لِمَ فعلت أو لم أفعل كذا؟

 

ذات ليلة كنا في ضيافة أستاذنا صادق النيهوم بشقته في عمارة (الأويزس) بطرابلس، وحدثنا عن (إيرك فروم) الفيلسوف الذي اشتهر في أواخر ستينيات القرن الماضي وفلسفته عن السعادة، التي أوجزها بقوله: "إنها تكمن في عدم لوم نفسك ومحاكمتها" يقول فكر وادرس واقتنع ونفذ ولا ترهق نفسك، بعد ذلك، بسؤال لا فائدة من معرفة إجابته: "لِمَ فعلت كذا ولِمَ لمْ أفعل كذا؟". إنه سؤال مرعب مقيت! إنه أساس تعاسة المرء! وجاهدت منذ ذلك الوقت، وتعبتُ ولكنني نجحت في النهاية ، في إلغاء هذا السؤال عندما أصل فراشي.

وأكرمني الله بنعيم النوم السريع الهادئ والعميق؛ والرفاق والأصدقاء الذين جمعتني بهم مناسبات لقضاء ليلة في مخيم، أو فندق أو غيره، يعرفون جيدا أنني لا أحتاج إلاّ إلى مخدة ولحاف لأستغرق في النوم كميت. كثيرا ما نمت وهم يحدثونني، ولقد سألني عديدون منهم عن السر في ذلك؟

حسنا، قد تفلسفت كثيرا وأنا أشرح لهم سر نومي السهل، والسريع والعميق! وظللت لسنوات أحاول أن أجد إجابة مقنعة لي وليس لهم، ولم أقل لهم أن فكرة (إيرك فروم) التي اعتمدت عليها طويلا، هي إلى حد ما مجدية، وأنني أًنفذها ولكنني، بيني وبين نفسي لم أعترف لهم أنني كثيرا ما أخفقت في عدم مساءلتها. كنت على أي حال أستغرق سريعا في النوم!. لعل سبب ذلك اقتناعي أن لوم النفس للنفس يطوى الضلوع على المستحيل.

لقد رجحت حالتي إلى تجردي من سطوة "وشوشات الأنا" عندما أفكر في نصيحة (إيرك فروم) وأيضا إعجابي الشديد بمقولة ( كازانتزاكيس) التي طلب أن تكتب على قبره: "لا آمل في شيء. لا أخشى شيئا. أنا إنسان حر".

وأتذكر تلك الليلة عندما حدثنا (جنقي) عن هذا الكاتب وعن زوربا، وأن عدم التطلع إلى ما ليس في مقدورك الحصول عليه، وعدم الخشية والخوف من شيء يجعلك إنسانا حرا تملك نفسك بما في ذلك القدرة على النوم السريع، فأنت بما لديك، لا تخشى شيئا ولا تريد شيئا.

إنه ليس العجز، كما قد يبدو لك الأمر من الوهلة الأولى، وإنما الزهد والترفع عن كل ما يفقدك إنسانيتك، فمن الخاسر سوى أولئك الذين لا يؤمنون بالحق ويتواصون به وبالصبر. أليس هذا ما لخصه الحق، جل شأنه، ببساطة وبلاغة هائلة: "وَالْعَصْرِ، إِنَّ الْإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ، إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ".

صحيح أنني لم أكن حرا تماما، فلقد كنت ألهث وراء الدنيا عبر سبل كثيرة لدرجة أن أتعجب عندما أتذكر كيف توفقت فيها، وكيف كان اللهث خلفها مثمرا. وكيف أنني ما صادفت بابا مغلقا، إلاّ وفُتح هكذا وبسلاسة.

ولكن، ويجب عليك أن تصدقني، أن ذلك اللهث، لم يكن بسبب أطماعي الشخصية، ولكن من أجل مخلوقات لطيفة أحببتها لأنها رأت فيّ (المُنقذ)، ولأن سي عقيلة قد كبلني بعهود كان يكررها من دون ملل أو كلل طوال الليل والنهار، ربما كان يداهنني أو ربما أنه صادق؛ كأن يقول لي أنه: "لم ير في حياته أخوة يحبون أخاهم مثلما يحبك أخوتك!" وكان هذا التصريح هو غرفة الاحتراق التي كانت تدفع قاطرة حياتي منذ سنة 1958 حتى سنة 2013، ولربما كانت مندفعة بدعاء "وافية"، التي أقسمت أكثر من مرة، أنها لا تنتبه إلاّ وهي رافعة في الأفجار ذراعيها نحو السماء هاتفة: "الله يربحك يا محمد ويربح رفيق رفيقك.." أو ربما أن تلك المخلوقات اللطيفة (أخواتي) التي أعرف أنها تحبني، ورثت من أمها تلك الحالة الصوفية.

ولكن ما العلاقة بين هذياني هذه الليلة وبين الدعاء الصالح؟

حسنا، بدأ النوم يتسلل من قدمي، وسريعا ما يصل رأسي، ورسالتي هذه إليك طويلة، وحتى لا يعقرك الملل سوف أقسمها إلى أجزاء، قد تكون اثنتين أو ثلاثة أو بحسب سلطة سلطان المعاصي. وسوف أستمر في كتابتها، لأن الكلمات إليك تعود منك إلى كحمامة زاجل محملة بدفء وتفهّم لما لم يستطع خاطري أن يوضحه إليك. فأسمع مني حكاية "طائر الشوك".