Atwasat

موسم الخروج من أوروبا

جمعة بوكليب الأربعاء 11 سبتمبر 2019, 01:06 مساء
جمعة بوكليب

الوضع السياسي البريطاني حسب ما يصلنا من تفاصيله يوماً بيوم عبر وسائل الإعلام، يبدو للوهلة الأولى أنه لا يختلف عن وضع مسافرين في رحلة جوية مجهولة (uncharted flight) بطائرة، يقودها كابتن لم يسبق له قيادة طائرة، مليئة بمسافرين في طريقهم للإقلاع، قاصدين البحث عن طريق يقود إلى الخروج نهائياً من فضاء الاتحاد الأوروبي إلى فضاء آخر مختلف لكن دون خريطة طريق واضحة ومتفق عليها ودون الحصول على أذونات رسمية بالسماح لطائراتهم بعبور أي أجواء معروفة، على أمل أن يحالفهم الحظ ويصلوا إلى جهتهم المقصودة قبل 31 أكتوبر 2019 وكل ما عليهم فعله حالياً هو ربط أحزمة المقاعد تهيؤاً لإقلاع قريب نحو فضاء مجهول.

ما يحدث تحت السطح يختلف تماماً عما يظهر فوقه طافياً ولعدة أسباب أهمها: أن أعضاء الفريق الجديد بقيادة جونسون في «داوننغ ستريت» ليسوا هواة بل ساسة محترفون، مزودون بخرائط مفصلة وبوصلات تعينهم على الخوض في التضاريس والظروف المناخية الصعبة دون التعرض لإعاقات أو إحباطات. ومصممون على تكملة المشوار بتحقيق هدفهم الأولي وهو قطع الخطوط التي تشد بريطانيا بالاتحاد الأوروبي مهما كانت التكاليف أو تعاظمت التجاوزات. وثانياً التأكيد على عدم تسليم مفاتيح «داوننغ ستريت» لغيرهم، خاصة زعيم العماليين جيريمي كوربين.

 ليسوا هواة بل ساسة محترفون، مزودون بخرائط مفصلة وبوصلات تعينهم على الخوض في التضاريس والظروف المناخية الصعبة دون التعرض لإعاقات أو إحباطات
الفريق الوزاري الجالس حول منضدة السيد جونسون رئيس الحكومة ليس فريقاً عادياً، بل فريق حرب يضم بين صفوفه غلاة المعادين للبقاء في الاتحاد الأوروبي. اُختيروا بعناية لإخافة بروكسل ولإجبارها على التراجع عن إصرارها في مسألة الحدود الأيرلندية والعودة إلى منضدة التفاوض أو مواجهة أزمة خروج بريطانيا من دون اتفاق ومن دون دفع مصاريف والتزامات الخروج التي تصل إلى 39 مليار جنيه استرليني. وفي نفس الوقت تصميم استراتيجية لحملة انتخابية تعد في «داوننغ ستريت» وليس في مقر الحزب، بالتنسيق والتعاون مع خبراء في إدارة الحملات والشخصيات التي تولت وقادت حملة الخروج في الاستفتاء العام 2016 ووضعها موضع التنفيذ.

الخروج المنتوي بلا اتفاق من الاتحاد لن يكون إلا بتجاوز البرلمان. ولكي يتم ذلك بُدئ في تنفيذ الخطوات الأولى للحملة الانتخابية عبر برنامج منظم يقوم على استغلال الارتباك الذي تمر به قيادة حزب العمال وعجزها على بلورة موقف واضح من الخروج من الاتحاد؛ مما أدى إلى خلق هوة بين كوادر الحزب وقيادته. إلى جانب ذلك استهداف الدوائر الانتخابية المعروفة بولائها التاريخي لحزب العمال في مناطق الشمال المؤيدة لخروج بريطانيا من الاتحاد. والوعود بتقديم الدعم المالي لمدن الشمال والتأكيد على عزم الحكومة على تنفيذ المرحلة الثالثة من مشروع القطار السريع الذي يصل مدينتي ليدز بمانشستر، ودعم الشرطة بالمال والرجال لمحاربة الجريمة.

استراتيجية الحملة الانتخابية القادمة ستكون تحت شعار: «الناخبون ضد البرلمان»، أي بمحاولة دق إسفين بين الناخبين الذي صوتوا، مطالبين بالخروج من الاتحاد والبرلمان الرافض لتنفيذ ما أراده الناخبون. وهي فكرة أقل ما توصف به أنها شيطانية تهدف إلى وضع المواطن ضد برلمانه الذي يحمي حقوقه وحرياته.

ليس في نية السيد جونسون، ولا في نوايا أعضاء فريقه من غلاة المعادين في حزب المحافظين لبقاء بريطانيا في الاتحاد الأوروبي، أن يفلتوا من بين أياديهم فرصة تاريخية استلزم أمر وصولها إليهم الكثير من العمل طيلة أعوام ثلاثة من التخطيط والعمل الشاق والمناورات السياسية، وكل ما كان ممكناً من وسائل وأساليب توفرت لهم وأدت بهم إلى إطاحة حكومة السيدة ماي. وأعتقد شخصياً أن هناك فرصاً عديدة لتحقيق الخروج بتجاوز البرلمان وإمكانية الفوز بالانتخابات النيابية القادمة، وبأغلبية، بناء على استطلاعات الرأي العام.

كل المؤشرات المتاح الاطلاع عليها إعلامياً تقود إلى التنبؤ بأن سياق الأحداث وتطورها يسير لصالح تيار اليمين المعادي لأوروبا بقيادة السيد جونسون، والخروج من المأزق الحالي سينتهي بإعلان إجراء انتخابات نيابية بغرض إزاحة العائق البرلماني كلية وفتح الطريق أمام حكومة السيد جونسون لتنفيذ برنامجها بقص الخيوط مع أوروبا وتقوية الأخرى التي تربطها بأميركا ترامب.

لكن الرحلة المنتوية بدأت فجأة قبل موعدها المحدد وعلى غير توقع وفي وقت صادم. «داوننغ ستريت» أصدر قراراً يوم الإثنين بتعليق البرلمان. كان من المفترض أن يتم ذلك يوم الخميس المقبل لكن الكابتن جونسون قال في تصريح سابق إنه يفضل الموت مرمياً في خندق على أن يطلب تمديداً جديداً للخروج من الاتحاد الأوربي. وها هو ينفذ وعده ويعلق البرلمان ويرفض تنفيذ قانون أصدره البرلمان خلال الأيام الماضية ويقرر الخروج ببريطانيا من أوروبا يوم 31 أكتوبر المقبل كما هو مقرر.

كل المؤشرات المتاح الاطلاع عليها إعلامياً تقود إلى التنبؤ بأن سياق الأحداث وتطورها يسير لصالح تيار اليمين المعادي لأوروبا بقيادة السيد جونسون
الحكومة التي من المفترض أن تصدر القوانين وتفرض تطبيقها على المواطنين وتعاقب المخالفين ترفض جهاراً نهاراً تنفيذ قانون برلماني وتقرر الخروج من الاتحاد الأوروبي بلا اتفاق.

المحاكم ستكون الحكم بين الحكومة والبرلمان. لكن ما حدث بلا سابقة ويتسم بخطورة ومن الممكن أن يؤدي بكل بريطانيا نحو ضرر دستوري كبير واقتصادي أكبر.

أحزمة المقاعد مربوطة بإحكام، والكابتن جونسون رغم العوائق السياسية مصمم على الوصول إلى جهته المقصودة بسلام أو الهلاك.

لحسن حظه وحظ المسافرين أن الاقلاع ليس من مدرج مطار «معيتقية» في طرابلس!