Atwasat

السلطة بالطريقة السودانية!

أحمد الفيتوري الثلاثاء 10 سبتمبر 2019, 07:55 مساء
أحمد الفيتوري

زرت السودان، أيام العسكري جعفر النميري 1977م، كنت كسكرتير لتحرير جريدة (الأسبوع الثقافي) الليبية، في دورة صحفية، حول الثقافة في المجتمع الزراعي، تقيمها الجامعة العربية. استضافتني أسرة سودانية، مثقفة وسياسية معروفة، في بيتهم، حين دخلت البيت في أم درمان هالني ما رأيت، أن الأسرة الكبيرة منهم البعثي ومنهم الإسلامي ومن استضافني من اليسار، وجميعهم منضوون في أحزاب، في أيام النميري تلك الأحزاب ممنوعة، لكن ذلكم البيت يعج بالمتحزبين شبه العلنيين، وجميعهم في حوار، ساخن، حار، مكثف، مثلما الطعام ما قدم لنا، هكذا بيت التقيت حيثما سحت، في أم درمان وود مدني والخرطوم وغيرهم.

السودان هذا، في التو والساعة، نوارة الربيع العربي المخرف!، فإن الحاصل فيه، استحداث مستخرج سياسي لصراع على السلطة، غير نموذج الياسمين التونسي المفرد!، وغير مستنقع الحروب الأهلية لدول الربيع الأخرى. فالطريقة السودانية في المطبخ السياسي، أعادت بعث مفهوم (ازدواجية السلطة)، ما يعني تشارك السلطة بين الفاعلين الأقوى على الأرض. 

ولقد كتب السياسي والمثقف السوداني كمال الجزولي، في مقالته (ازدواجية السلطة): "ورغم أن هذين المفهوم والمصطلح قد يُنسبان، أحياناً، على نحو أو آخر، إلى منظِّر الفوضويَّة الفرنسي بيير جوزيف برودون (1809م ـ 1865م)، إلا أن ما استقرَّ، تاريخيَّاً، هو أن فلاديمير إليتش لينين، قائد ثورة 1917م الاشتراكيَّة في روسيا، هو من سكَّ المصطلح، وساق التنظَّير للمفهوم، ربَّما لأوَّل مرَّة، عبر العتبتين الأساسيَّتين لتلك الثَّورة في شهري فبراير وأكتوبر. ولذا قد يُستخدم مصطلح "السلطة المعاكسة"، أحياناً، لتمييز دلالته عن الدَّلالة اللينينيَّة. أمَّا مؤسَّسات هذه «الازدواجيَّة» فقد تتَّخذ أشكالاً تاريخيَّة شتَّى، كمجالس العمال، أو المحليَّات التَّحرُّريَّة، أو الاتِّحادات التَّعاونيَّة، أو المناطق المستقلة الدائمة أو المؤقَّتة، أو ما إلى ذلك.".

ما تبينه هذه الفقرة من المقال الجزولي، البعد التاريخي للمصطلح في الأدبيات السياسية، لكن هناك بعد أخر هو أن السودان في المنطقة، اتخذ في تقديري هذا الحلّ، لأن هناك مرتكزات في التجربة السياسية الخاصة، فشكلٌ من ازدواجية السلطة، حكم السودان في مراحل سياسية قبل، وإن تكن غير ما نرى الساعة بطبيعة الحال، وماهية (ازدواجية السلطة) في الاتفاق السوداني الحالي، أو ماقنا كارت الربيع السوداني، يطرحها مقال الجزولي: "عند التَّفكير في المدى، الذي بلغه تجاذب الأطراف السُّودانيَّة، لصيغة العلاقة الدُّستوريَّة بين تحالف الحريَّة والتَّغيير، من جهة، خصوصاً مكوِّناته المتمثِّلة في تجمُّع المهنيِّين وبعض الأحزاب، وبين العسكريتاريا التي شاركت، من جهة أخرى، أردنا أم لم نرد، في جعل الإطاحة بنظام البشير الإسلاموي أمراً ممكناً، من فوق انتفاضة ديسمبر 2018م المجيدة، يلحُّ على الذِّهن أن هذا التَّجاذب خلق وضـعاً ما ينفكُّ يزحـف حثيثاً، نحـو شكل فريد من أشكال «ازدواجيَّة السُّلطة ـ Dvoevlastie» أو «Dual Power» التي تتمظهر، لا كأيديولوجيَّة، بل كإستراتيجية". 

علينا أن نُشير أن هكذا اتفاقا أُبرمَ، تحت رعاية إقليمية دولية، ومن هذا تَمظهرَ كنموذج للحل، حيث توفرت بطريقة وأخرى الأضلع الثلاثة، المحلي فالإقليمي والدولي، الضرورة لحل مشاكل الدول. وهذا ما جعل من الممكن، أن تكون (ازدواجية السلطة) مستطاعة، لتوفر السبل لخلق توازن بين القوى المتصارعة، ما تَداعكت وتَصارعت للانفراد بالسلطة. 

لافِتين النظر إلى أن الشقاق، كان متوفرا داخل كل قوة على حدة، فلا الجيش موحد وغير قابل للتفكك، ولا تحالف الحريَّة والتَّغيير كان متماسكا، علّ هذا من دواعي القبول المتلكئ، فالحاسم بفعل الضغوطات الإقليمية الدولية، ما كان هذا التصدع المهدد لكل طرف، مسندها.

نخلص من هذا إلى أن (ازدواجية السلطة) لخلق توازن مفقود، الحل الأخير ما على الطاولة، وأنه الممكن لوضع الحصان أمام العربة، حيث الربيع العربي في موجاته المتتالية غير مسارات الممكن عالميا، وفي مسارات متغيرة يبدو ضبط مسألة ما أكثر تعقيدا من حلها، من هذا فإن الطريقة السودانية للطبخة السياسية ما بعد الربيع، الطريقة التي توفر حلا عاجلا لمسائل ضاع رأس خيطها، مثلا: في الجزائر الدولة / جيش التحرير الشعبي 1962وحتى الساعة، وفي ليبيا الدولة التي بنيت دون جيش، كما لبنان وتونس، فإن قام فيها انقلاب عسكري منذ خمسين سنة/ سبتمبر 1969م، فإن قائد الانقلاب حكم بكتائب أمنية أسسها.

فيكون من أفريقيا يبتدع، ازدواجية السلطة السودانية، ما هي تحصيل حاصل، حيث لم يعد بالإمكان الانفراد بالسلطة، حيث فقد التوازن، حيث بالإمكان الآن وهنا، أبدع مما كان....