Atwasat

ميمونة تعرف ربي، وربي يعرف ميمونة!

محمد حمامة الثلاثاء 10 سبتمبر 2019, 04:29 مساء
محمد حمامة

ميمونة أمة سوداء جاء بها سيدها أحد تجار الرقيق من جنوب السودان وهي طفلة تبلغ من العمر سبع سنوات واحتفظ بها في بيته في أحد شوارع بنغازي القديمة، عاشت ميمونة في بيت سيدها حملت أطفاله وأحفاده علي جنبها حتي أصابها (البوجنب) ونفخت مواقد الفحم حتي أصابها السعال وخبزت آلاف الأرغفة، ثم زوجها سيدها لأحد عبيده وعاشت في البيت الكبير ولم تغادره وأنجبت دستة من الأولاد والبنات تناثروا في البيت الكبير مثل حبات الزيتون، كانت المفضلة بين (خدم) سيدها أخذها معه قبل زواجه إلى الحجاز فى رحلة حج استغرقت قرابة الثلاثة أشهر، وأصبحت ربما من بين رقيق بنغازى، كبرت أسرتها بعدد من (الكناين) والأحفاد وتقدم بها العمر ورفقا بها وسنها تم تخفيف الكثير من الأعباء التى كانت تقوم بها، وكانت تقضى أغلب وقتها جالسة على نطع ومسبحتها فى يدها محافظة على الصلاة كأي عجوز ليبية، كان رصيدها من سور القرآن الفاتحة والمعوذتان والإخلاص وبقراءة غير صحيحة لعدة أسباب من بينها لهجتها الأفريقية، كانت تقوم من بين أي حلقة من النساء أو بناتها لتؤدي فرضها ثم تعود إليهن، بدأت بعض من بناتها ومن بقية النسوة في انتقاد صلاتها، واحدة تنتقد ركوعها والأخرى سجودها وثالثة التفافها أثناء الصلاة، صمتت ميمونة على ذلك مدة، ثم انفجرت ذات أمسية شتوية قائلة "ميمونة تعرف ربي، وربي يعرف ميمونة" وصارت الكلمة مثلا دارجا سرى بين بيوت بنغازي، يعرفه جيل الأربعينيات والخمسينيات فيها.

أيها السادة ميمونة منذ ولادتها وحتي مماتها لم تسمع بقول أمير المؤمنين عمر بن الخطاب "اللهم إيمان، كإيمان العجائز".

2
الحاج عبد الحفيظ رجل من قبائل الجبل الأخضر انتقل إلى بنغازي بعيد نهاية الحرب العالمية الثانية، عمل في الدوائر الحكومية وتزوج وأنجب، وفي أواخر سنوات عمره قرر أولاده أن يجمعوا مبلغا من المال ليحققوا له حلمه بتأدية فريضة الحج، كانت الوسيلة في أوائل الستينيات هي السفينة وكان حجاج ليبيا يتكونون من فوجين الأول من طرابلس والثاني من بنغازي وكان من عادة حكومة ليبيا أن ترسل مع بعثة الحج الشيخ مصطفي التريكي رحمه الله، في الباخرة استمع الحاج عبد الحفيظ إليى الشيخ التريكي، حيث كان يشرح للحجاج كيفية آداء مناسكهم من طواف وسعي والوقوف بعرفة والأدعية بذل (سى عبد الحفيظ) جهد فى حفظ الأدعية، وصلت السفينة إلى جدة واستقل الحجيج الحافلة إلى مكة، هناك وبعد أن وضع الحاج عبد الحفيظ حقيبته في الفندق توجه مع بقية رفاقه إلى البيت، دخل إلى البيت هناك هاله المنظر الجليل للكعبة وامتلأت عيناه دمعا وفى صحن الطواف ضاع من رفاقه وسط الزحام أبكاه جلال الموقف فنسي الأدعية جميعها ولم يعد يتذكر متي يسير ومتي يرمل، لكنه صار يهرول ببساطة الإنسان الليبي وهو يردد "أشهد يا بيت إني حجيت!" حرص على أن يكمل طوافه وسعيه وقصر من شعره ونزل إلى بئر زمزم فشرب منه وصلى قرب مقام إبراهيم وهناك عند الدرج المؤدى إلى بئر زمزم جلس (سي عبد الحفيظ) منهكا مهموما التقي بأحد ممن كانوا معه فى الباخرة الذي سأله عما به فأخبره سي (عبد الحفيظ) ماحدث له، قال له رفيقه إن عليه أن يسأل الشيخ التريكى ليتأكد من صحة طوافه وسعيه، في الفندق وجد الشيخ مصطفي التريكي يجلس في القاعة، تقدم منه وقص عليه ما حدث من دخوله للبيت وحتي انتهائه من مراسم طواف القدوم، قال له الشيخ التريكى طوافك صحيح وسعيك صحيح بإذن الله "ياحاج لقد لخصت جميع الأدعية في دعاء واحد. يكفى أنك أشهدت البيت على حجك".

أيها السادة الحاج عبد الحفيظ لم يسمع في حياته بقول الرسول صلي الله عليه وسلم بأن القرآن يشهد لقارئه، والصوم يشهد للصائم والبيت يشهد لمن زاره وطاف به.