Atwasat

ومضات «متقاطعة»

محمد عقيلة العمامي الإثنين 09 سبتمبر 2019, 02:02 مساء
محمد عقيلة العمامي

في طفولتي تأخرت في فك الخط وقراءة الكلمات، ولذلك جعل مني الأستاذ عبد السلام قادربوه رئيسا لصف أسماه ساخرا: "الشطار". كانت مقاعد هذا الصف حوالي ستة، وبكل مقعد تلميذان وأذكر أغلبهم حتى الآن، ومنهم من تولى مناصب قيادية مرموقة في الزمن الجماهيري، وأيضا في زمن "الحسرة". الصف كان على يسار باب الفصل، وبالطبع لا يرى أي أستاذ زائر أو مفتش تعليم يدا ترتفع من هذا الصف حتى لو كان السؤال عن سبب تسمية مدرستنا بالأمير!.
أعترف أن رفاق فصل (ثالثة خامس) سبقوني في فهم وقراءة الكلمات. وعندما وصلت بعد جهد خارق إلى مرحلة قراءة مجلة سندباد وسمير وميكي، وصل منهم من وجد طريقا نحو قهوة سي عقيلة، إلى فك مربعات الكلمات المتقاطعة، التي انتبهنا إليها في الصحف المصرية، وكانت مرحلة متقدمة في الفهم والتميز. وكان الرفاق يتسابقون في حلها، فيما كنت أدعي معرفة فكها ولكنني في واقع الحال لا أعرف بتاتا ذلك العلم. كانت مشكلتي الأساسية في التمييز ما بين الكلمات الرأسية والأفقية، لأنني في الواقع لا أعرف حينها معناهما!
تجرأت ذات يوم وسألت يونس البرناوي، وفهمت المقصود بالكلمات الأفقية والرأسية، بل بدأنا في حل واحدة وأنجزناها معا، وكانت متعة هائلة، خصوصا عندما وصلنا إلى الحل والكلمة أو الجملة المطلوبة، ولكنها ظلت بالنسبة لنا تسلية صعبة من دون المعلومات العامة.
لدي رسائل كثيرة، وخواطر، كتبتها في أوقات متنوعة؛ منها وأنا مبتهج ومنها وأنا حزين، منها ما كان الإحباط قد رمى بي في جُبْ النكد، ومنها ما كان التفاؤل قد رفعني إلى السماء. منها ابتهال ومنها امتنان ومنها شكوى ومنها شتيمة! ولكنها لم ترسل إلى أصحابها، منها ما مزقته، ومنها ما احتفظت به، أو التففت عليه ونشرته برمز، لا أعلم إن كان قد وصل أو لم يصل من قصدته بالرمز أو اللمز، فذلك أمر لا يقلقني من بعد أن شطبته من ذاكرتي.
كل هذه الرسائل ، والخواطر، حاولت خلالها التجرد من التباهي أو التفاخر، أو الادعاء، أو البطولة، ولكنني أعترف أنني فشلت مرات ليست قليلة! شيء واحد حرصت على تأكيده، هو صدق مشاعري عندما كتبتها، ودليلي على ذلك أنه لما أعدت قراءة ما كتبت، من بعد سنوات، لم أستبدل فيه سوى كلمات بسيطة.
هذه الرسائل هي على نحو "ومضات متقاطعة"، تماما كالكلمات المتقاطعة، إن تمكن القارئ الكريم في تنسيقها؛ "الرأسي" منها و"الأفقي" سوف يعرف، بالتأكيد، الكثير مما اعتمل ويعتمل في صدري، فهي على نحو ما شبه سيرة ذاتية، قد تفيد أو على الأقل تسلي القارئ.
سوف أحاول أن أجعلها بتواريخها فقد تتأسس من خلالها أحداث تاريخية قد تُعين من يهتم بذاكرة المكان وشخوصه؛ المكان هو وطني، الذي يعيش في وجداني، أرحل به وأعود به، يرى ويتابع ومضاتي كتلك التي كتبتها في فيتنام، أو الصين، أو في قبعة العالم الشمالية حيث الحال نهار طوال أشهر وليل أشهر أخرى. الشخوص هم رفاق من جيلي، أو من رموز عاصرتها واقتربت ببعض منها. أو عابرو سبيل مروا في حياتي، منهم من ترك أثرا قويا كإعصار، ومنهم من فات كفراشة. الكثير من هذه الومضات نشرت لخدمة فكرة في مقال ما، وعديد منها مازال بعبق تلك الأيام. سوف لن أتقيد بالتسلسل التاريخي لها، ولذلك سوف تكون البداية، في الأسبوع القادم، من آخر هذه الومضات