Atwasat

«تاريخ الكذب»

عمر أبو القاسم الككلي الأحد 08 سبتمبر 2019, 02:12 مساء
عمر أبو القاسم الككلي

من المهم التساؤل عن أصل الظواهر الإنسانية. فبما أن الإنسان تاريخي، بمعنى أنه ظهر في لحظة معينة من تاريخ الكون وأنه أسس لتاريخه هو ذاته، فكل الظواهر التي انبثقت عن وجوده، هي ظواهر تاريخية.

فالأخلاق، مثلا، نشأت في مرحلة معينة من تطور المجتمع الإنساني، وقد نشأت داخل الأسرة، حين "وصلت حياة الأسرة إلى درجة سامية من الرقي تزينها العواطف الرقيقة التي أوشكت على التعبير عن مظاهر الرضى أو السخط، وأفضت إلى تصورات عن السلوك الحميد والسلوك المعيب. وبذلك بدأت المشاعر الباطنية"للضمير" (1) تسمع صوتها للإنسان. ولأول مرة صار الإنسان يدرك القيم الأخلاقية كما نعرفها نحن الآن.

وفي هذا المقال سنطرح تساؤلا هو: متى ظهر الكذب والخداع؟.

يبدو لي أن الكذب ظهر، أول ما ظهر، في الأسرة أيضا. فحين يخشى الأطفال عقابا، على فعل نهاهم أباؤهم عن ارتكابه، يضطرون إلى الكذب والمخادعة، وأيضا في العلاقة بين الأزواج حين يلجأ أحد الزوجين إلى الكذب على الآخر مداراة لفعل ارتكبه يثير حفيظة هذا الآخر.

وهناك من يعزو خروج الكذب من المحيط الأسري إلى العلاقات الاجتماعية إلى ظاهرة التعاون (http://theconversation.com/the-evolution-of-lying-14254). فـ "أنواع [حيوانية] عديدة، أبرزها نوعنا، طورت استعدادات فائقة للعادة بخصوص التعاون. قد يبدو لنا التعاون ملمحا بارزا من ملامح الحياة، إلا أن مردود التعاون بعيد المدى يتطلب إرادة وضع المصلحة الشخصية الضيقة جانبا على المدى القصير. وهذا لا يتطور بسهولة. التعاون يتيح الإمكانية لبعض الأفراد القيام بالغش، والانتفاع من جهود الآخرين التعاونية. تعاون بأريحية وستجد نفسك خدعت. وإذا تعاونت بتراخٍ فلن تجني فوائد العمل المشترك".

إلا أن جاك دريدا يقرر (2) أنه ليس للكذب تاريخ. إذ "كيف يمكن أن يكون للكذب تاريخ مستقل في حين أن التاريخ، والتاريخ السياسي على وجه الخصوص، يزخر [...] بالكذب؟ كيف يمكن أن يكون للكذب تاريخ جوهري ولصيق بخصائصه الداخلية في حين أنه يعاش من خلال تجارب مشتركة، وبنيته تبدو بديهية والظروف المهيأة [المهيئة] لنشوئه لا ترتبط بزمان ولا مكان محددين؟". وهذا على خلاف حنة أرندت التي ترى، كما ينقل دريدا، أن تاريخ الكذب شهد تحولا واضحا على مستوى تاريخه كمفهوم وكذلك على مستوى تاريخ مختلف الممارسات التي تشكل فعل الكذب، وأن الكذب لم يبلغ حدوده القصوى ليصبح "كاملا ونهائيا" إلا في عصرنا هذا. أي أن الأمر يتعلق برقي وانتصار الكذب.

يسير دريدا على نهج الذين يفرقون بين الخطأ والكذب، وبين الحقيقة والصدق. فإدلائي بأقوال ومعلومات غير صحيحة [خاطئة] وأنا أعتقد بصحتها، لا يعني أنني كاذب. هنا أقوالي تناقض الحقيقة. أما إذا أدليت بهذه الأقوال والمعلومات الخاطئة وأنا أدرك أنها خاطئة (قصد نيل حظوة ما أو الإضرار بشخص ما) أكون كاذبا. وعندها ليس الجوهري مناقضة أقوالي للحقيقة، وإنما مناقضتها لمأ أؤمن به في قرارة نفسي [حتى لو كان خاطئا أيضا]. أي مناقضتها مبدأ الصدق. فالكذب يرتبط بنية الكذب. يرتبط بقصدية الخداع والتضليل. فالكذب "يتضمن في الوقت نفسه وعدا بقول الحقيقة وخيانة لذلك الوعد".

ومن ناحية أخرى يميز دريدا بين "تاريخ الكذب" و "مفهوم الكذب"، لأن المفاهيم تعقب ظهور الأشياء التي تمفهمها، ويعترف بوجود صعوبة بالغة في تعريفهما. فبخصوص التاريخ لا يمكن كتابة تاريخ للكذب نضمن أننا لن نكذب فيه، وبخصوص المفهوم يكتفي بما يصفه "الكذب الطليق" أي الداخل في كل شيء.
1- جيمس هنري برستد. فجر الضمير. ترجمة الدكتور سليم حسن. مكتبة مصر، الفجالة (د.ت).
2- جاك دريدا، تاريخ الكذب، ترجمة وتقديم رشيد بازي، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء، المغرب، 2016