Atwasat

حـربُ الزبونية

نورالدين خليفة النمر الأحد 08 سبتمبر 2019, 02:10 مساء
نورالدين خليفة النمر

أوردت صحيفة الوسط ،03 سبتمبر 2019 كلمة سفير روسيا لدى الأمم المتحدة، في مؤتمره الصحفي, وقد تولت بلاده رئاسة مجلس الأمن في نيويورك، وهو ماسنعتبره إشارة البدء لتوافق تقوده روسيا لحساب إيطاليا، بعد اتفاق ضمني مع فرنسا، ليتمكن المجتمع الدولي من ترميم موقفه إزاء النزاع الليبي ـ الليبي، الذي تأجج منذ أبريل 2019 حرباً على تخوم طرابلس، من محاور لم يتبقَّ منها إلا بطاريات المدفعية التي تقذف المطار الوحيد المتبقى نافذة على العالم للعاصمة الليبية المنكوبة. المسعى الذي تتوخاه البعثة الأممية في ليبيا بهذا الخصوص. يتمثل في إحالة تقرير حول قصف المطار إلى كل من المدعي العام لمحكمة الجنايات الدولية ومجلس الأمن ولجنة العقوبات المعنية بليبيا. إذا تم اعتبار القصف استهدافاً عشوائياً لمرافق مدنية، فهذا يضع مقترفيه تحت تهمة جرائم الحرب التي تقرّرها التحرّيات عن نوع السلاح، ومصدره، ومن أطلق القذائف.

ستكون التحرّيات مجرّد إجراء شكلي لتثبيت واقعة، سماها المندوب الأممى في مقابلة له مع قناة ليبيا لكل الأحرار 10/ 8/ 2019، واصفاً الحرب التي أنهاها اتفاق الزاوية في 30 سبتمبر 2018 بأنها خلاف بين ترهونة التي هاجمت وحكومة طرابلس التي دافعت عن نفسها. بينما تنضوي قبيلة ترهونة في الحرب التي تقمصت إهاب مسمى الجيش الوطني أبريل 2019 والتي لم تسكت مدافعها بالقذائف التى تُلقى مسؤوليتها جغرافيا على قوات قبائل ترهونة وأحلافها من قبيلة العلاونة في جنوب شرق طرابلس.

انتهز دكتاتور ليبيا المُسقط بالثورة الشعبية 2011 تعلّة الغارة الأمريكية لمدة خمس دقائق على العاصمة الليبية طرابلس أبريل1986، ليوّزع رمزية الدولة في أماكن متعددة: الحكومة في مركز قبيلته سرت، والجيش في واحة الجفرة جنوبها، وسلطته في ثكنته بباب العزيزية، حيث تنتصب الخيمة. لتبقى طرابلس كعادتها دائماً مقراً للتمثيل الدبلوماسي الدولي الذي تديره أمانة اللجنة الشعبية للاتصال الخارجي. وهو تقريباً نفس التوزيع الذي افتعله الملك إدريس إذ نقل الحكومة بتعلِّة تواطؤ بنغازي مع قتل ناظر خاصته الملكية إلى البيضاء عام 1954، التي تتمركز فيها قبيلة البراعصة المتضررة والموالية لمُلكه ومقرّ قوة دفاع برقة التي يقودها صهر الناظر القتيل، بينما هرب الملك إدريس بسلطته إلى قصره بطبرق تحت حماية القاعدة العسكرية البريطانية، وترك العاصمة التاريخية طرابلس كعادتها منذ القرن الثامن عشر مقراً للتمثيل الدبلوماسي والقنصلي الدولي، وبعد تصدير النفط لشركات النشاط الاقتصادي القائم على المورد البترولي.

مايُلفت في التوزيعين الليبيين، إرضاء أو مكافأة القبيلة وأحلافها أن يكون مركزها مقرّاً للحكومة الملكية أو للجنة الشعبية العامة في الجماهيرية. مكافأة الولاء بغرض التلاعب السياسي به، الذي يتم غالباً إبرامه ضمنيا عبرالزبونية "Clientelism" كونها الميكانيزم الذي تستعمله السلطة، بالذات في البلدان الريعية، لتدمج به مجموعة هامشية أو محيطية "peripheral"تتميّز بنسقها الثقافي الخاص الذي يوجه سلوكاتها وأفعالها. والاستعمال يتم من طرف النخبة السياسية التي تسيطر على الدولة والأمة من أجل فرض نسقها الخاص من القيم, ولتدعيم سلطتها وسلطانها.

وكما بينا في مقالين سابقين أنه في المبحث السوسيولوجي والسياسي تستعمل الزبونية كفهوم للدلالة على المناورات التي يمكن أن يقوم بها حكم سياسي معين إزاء مجتمعه. فالزبونية أخذت هنا شكل المحاباة السياسية وتتم وفق علاقة تبادلية بين مركز القرار أو السلطة وباقي المجتمع. وكأن المركز يقدم للمحيط شيئا يحتاج إليه, مستحقا أو غير مستحق مقابل ولائه.

يرسم رودولفو ميكاكي في كتابه "طرابلس الغرب تحت حكم القرمانليين" المصير الذي انتهت إليه الأسرة القرمانلية (1711 ـــ 1835) كسلطة مركزية في طرابلس وامتداده إلى الأطراف البعيدة والقريبة التي حكمتها آليات الزبونية . فقد تُركت ليوسف باشا القرمانلي، زعيم العائلة التاريخي العجوز الملتبس بالتناقضات حرّية البقاء في طرابلس هو وولديه إبراهيم وعمورة واليي زليطن وورفلة بغرض الاستفادة منهما لحمل زعماء الدواخل الليبيين من أنصارهم على الخضوع والاستسلام لدولة العهد العثماني الثاني. بينما عثمان بيك الذي ثبته الوالي العثماني الجديد في منصبه حاكماً لبرقة، سرعان ماترك البلاد ومعه خليل بيك والي بنغازي. ميكاكي لايتكلم عن مصير أبناء القرمانللي الآخرين، الولاة: على غريان علي الكبير، وعلى الخمس عثمان. بينما يذكر بقاء مصطفى بيك والي مصراتة في حمى أحمد المريّض في ترهونة التي يغادرها العام التالي إلى طرابلس ليموت فيها بالطاعون. هذا الاستشهاد الدّال يبين أن الزبوبية والتعبير عنها ولاءً للقرمانلية في ترهونة، ليس مشروطاً بمكافأة الولاية التي شملت مناطق أخرى، ربما تكون أقل كثافة بشرية، تتميّز بها ترهونة عن كل التجمعات القبلية والجهوية المحيطة بطرابلس.

نتجاوز تاريخياً مكابدات عائلة المريض في العهد العثماني الثاني، والعسف الذي حاق بها في الحقبة الاستعمارية الإيطالية، ونقفز إلى نشأة الدولة الوطنية الأولى في ليبيا 1951، وهي الأوثق ليبية من الدولة القرمانلية التي ما انفكت تابعة إسمياً للسلطان العثماني في إسطانبول. أحمد المرّيض الثاني المجاهد ضد الطليان وأحد مؤسسي الجمهورية الطرابلسية، الذي تفرغ لتجارته بمنطقة الفيّوم يتوفى في مهجره المصري 1940، ابنه الطاهر المريض أحد مؤسسي ثاني حزب في طرابلس وهو حزب الجبهة الوطنية المتحدة، ينسحب سنة 1947 من العمل الوطني بسبب موقفه من الانتداب البريطاني على برقة وطرابلس، وخلافه مع الملك إدريس في هذا الشأن. أما المجاهد عبد السلام المرّيض أحد قادة المجاهدين في معركة "الشقيقة" 1915، وقادهم أيضاً في معركة الأكوام ، بل شارك في تأسيس الجمهورية الطرابلسية، و كان عضوا في الحزب الوطني الطرابلسي سنة 1949، يختفي عن وظائف الدولة بعد أن كان قائمقام ترهونة 1944 ـ 1950. الوحيد من عائلة المريض الذي أسند له بالتوالي منصب محافظ الخمس والزاوية وطرابلس، هو سالم المرّيض الذي كان أحد أعضاء الجمعية الوطنية الدستورية وأحدمؤسسي حزب الجبهة الوطنية المتحدة. كما اختير ضمن مجموعة الستين المكلفة بإعداد الدستور الليبي قبيل الاستقلال 1951.

إرتأت الترتيبات الزبونية التي اتبعها الملك إدريس، تحت تأثير النفوذ البريطاني عليه، استبدال الأعيان الممثلين في العائلات ذات المشروعيات التاريخية، بأشخاص من قبائل أو أفرع من قبائل، أو جهات. وهو ما اتبعه في فزان حيث وازن نفوذ عائلة سيف النصر من قبيلة أولاد سليمان، بإظهار قبيلة إزوية ممثلة في وزارة ورئاسة حكومة عثمان الصيد، واستبدال نفوذ عائلة السويحلي الكولوغلية في مصراتة بنفوذ عائلة المنتصر منافستها التي استثمر نفوذها الاقتصادي والسياسي في طرابلس. أما في ترهونة فتم إظهار فرع النعامات من ربع أولاد مسلم نفس القبيلة التي تنتمي لها عائلة المرّيض، فوقع الاختيار على أبوبكر أبونعامة ليكون وزيراً ثابتاً في الحكومات الملكية للتربية والتعليم، وللشؤون الاجتماعية ،وللمالية والاقتصاد، وأخيراً حتى انقلاب عام 1969 عضؤاً في مجلس النواب. وبإجراء وترتيب له دلالة، والياً لطرابلس من 1960 حتى 1961 عام إلغاء النظام الفيدرالي في ليبيا وتوحيدها باسم المملكة الليبية التي سقطت عام 1969 بانقلاب عسكر ليبيا.