Atwasat

عذرا داروين أحتاج آدميتي

سالم العوكلي الثلاثاء 03 سبتمبر 2019, 12:59 مساء
سالم العوكلي

نتيجة ولعي بمراقبة ألوان الفراشات في طفولتي، حين رأيت في الفصل معلم مادة الأحياء وهو يُشرِّح فراشة على الطاولة المتآكلة، تقوض الكثير من الجمال داخلي، ووجدت نفسي تحت وقع صدمة الفضول العلمي الذي حطم أسطورتي الطفولية تجاه هذه الكائنات حين تحولت إلى جثث صغيرة تلتصق أحشاؤها بأصابع المعلم الغليظة، وتولد في داخلي صراع بين العلم والجمال؛ هل هما نقيضان؟ أو أن للعلم جمالاً آخر يتعلق بقيم جمالية مختلفة، كالفضول والمغامرة والشغف بتقديم الإجابات؟. ويذكرني كل هذا بالاقتباس اللطيف الذي قرأه لي ذات مرة الصديق فهيم المحجوب في محله التقني الصغير بدرنة المطل على قطعة من البحر المتوسط وعلى محيط من المعرفة المأخوذ بها. اقتباس لطيف يختزل معادلة هذا الصراع: "يسكت عالم الحشرات عن وصف ألوان الفراشة مثلما يسكت الشاعر عن وصف خمائرها الهاضمة". وبالطبع فضلت سكوت الشعر على سكوت العلم .

حين وجد الإنسان نفسه في قلب الكائنات البكماء عاريا من كل ما يستر عورته وصيرورته، لاذ بالخيال مبتكرا أساطيره التي حاول بها أن يفسر ما يحيط به من غموض من ناحية، ومؤلفا حكايات سيرته التي تنأى به عن كل ما يدب فوق الأرض، بينما بقامته المنتصبة باشر التحديق في السماء كمكان سامٍ جاء منه وعائد إليه.

أطلق العنان للخيال وقريحته المتفجرة كي يصنع أسطورة بدايته ككائن مميز، وكي يرسم نهايته ككائن ذاهب إلى الخلود، فحنط جثته ودفن لوازم عودته للحياة بقربه، وسطر ملاحمه الباحثة عن سر الخلود ومقارعة الفناء، متلصصا على أسرار الآلهة سارقا منها النار والأسرار، ومشى فوق الماء صوب حلمه البعيد، وذهبت مخيلته لأن يكون هو الأصل للكون، أو اقترح بدايته كمخلوق تسكع قرب الخالق الذي نفخ فيه من روحه في فردوسه الأعلى ليضرب عبر الخطيئة موعده مع الأرض كخليفة للإله فيها.

وبهكذا نرجسية محببة للإنسان المتبجح سعى لأن يكون كائنا مقدسا أو نصف مقدس على الأقل، كي يختلف عن كل الدواب، وكي يدبج أول نصوصه الحقوقية التي تقول في جوهرها إن هذا الكائن الخطاء مقدس وبه نفحة من الله، لتصبح مع الوقت صفة الآدمية إحدى مصطلحات المدافعين عن حقوق الإنسان، ومن الجانب الآخر تمزج هذا الكائن مع الطبيعة في روح واحدة مقدسة من شأنها أن تؤسس لقداسة البيئة الحيوية المحيطة بنا واحترامها.

تذهب الأسطورة الصينية عن أصل الإنسان إلى خروجه من بيضة عملاقة كان يسبح في قلب ظلامها، فتطايرت موادها الشفافة الخفيفة لتُكوِّن السماء، ونزلت موادها الثقيلة الكثيفة لتُكوِّن الأرض. وبعد أن توفي هذا الكائن الأول تحولت عينه اليسرى إلى الشمس، وعينه اليمنى إلى القمر، وشعره إلى نجوم متلألئة، ورأسه إلى جبال شامخة، وأطرافه إلى أقطاب الأرض الأربعة، وصوته إلى هدير الرعد، ودمه إلى أنهار وبحار، وعروقه إلى طرق، وعضلاته إلى أراضٍ خصبة، وجلده وأوباره إلى أزهار وأعشاب وأشجار، وأسنانه وعظامه إلى أحجار كريمة ومعادن، وعَرَقه إلى أمطار وندى، ومنه ظهرت الدنيا.

أما أسطورة الخلق عند المصريين القدماء فتقول إن الإله رع فقد إحدى عينيه ولم ينجح في البحث عنها فاتخذ لنفسه عينا أخرى، لكن العين الغائبة تعود لتجد ما حدث من تغير فتذرف الدموع من شدة الغيظ فينتج عنها البشر، ويقرر رع أن يقوم بترضيتها عبر تسليمها للإله الكاتب (تحوت) ليرفعها إلى السماء وتتحول إلى القمر، لكن عندما فقد "حورس عينه اليسرى في حربه مع عمه "ست" منحه "تحوت" تلك العين لتصبح النموذج الأسمى للتكامل البدني، لذلك اقتدى به بعد ذلك الفراعنة بوضع تمائم وقلادات ورسومات لتلك العين في الحياة والموت.

أما أسطورة الخلق عند البابليين فتذهب إلى تصور البداية الأنوثية للكون والإنسان، في البدء، كانت الآلهة "نمو" ولا أحد معها، وهي المياه الأولى التي انبثق عنها كل شي، وأنجبت إنليل أب البشر الذي منه تكون الهواء، وبعد أن أبعدت السماء عن الأرض، وصدر ضوء القمر الخافت وضوء الشمس الدافئ، قام إنليل" مع بقية الآلهة بخلق مظاهر الحياة الأخرى.

أمثلة عن هذا الخيال الشعري الجامح الذي كان يؤلف للإنسان أصلا يليق بما حققه على الأرض وباختلافه عن كل الدواب التي لا يشغلها سؤال البداية ولا النهاية ولا يشغلها تقديس هذه الكينونة كي تحظى بكرامة هذا الجسد المبدع حيا وبعد موته.

غير أن العلم سيد الفضول سيضرب هذا الخيال الجميل في مقتل، ويعود بالإنسان إلى حظيرة الدواب أو إلى منبعه الحيواني، فتُنزع هذه القداسة الجليلة التي صاغتها على مر ألاف السنين مخيلة وقريحة الإنسان الباحث عن تميزه.

داروين ضرب أول نصوص لحقوق الإنسان حين تحول بهذا الكائن من أسطورة بدايته المقدسة إلى نظرية منشئه الوضيع، وهبط به من سلالة الآلهة المعلقة في السماء إلى سلالة جده المعلق في غصن شجرة. ثم جاء فرويد ليعيد الإنسان إلى سلطة غرائزه الحيوانية الأولى، تحدد ماضيه وحاضره ومستقبله سلطة الأيروس التي تفسر كل سلوكه، بينما ماركس يحيله إلى كائن كادح يحرك تاريخه الصراع حول المرعى والطعام. أعترف أن هذه اختزالات مخلة، لكن جوهرها المنتقى أيضا مخل بجمال الأساطير التي اقترحها الخيال الإنساني عن هذا الكائن المركزي في أرضه.

هذا الأصل الحيواني الذي أخبر به داروين عقل الإنسان النرجسي أحال حدود الأرض إلى سياج حظيرة يعيش فيها الإنسان المروض خياله الذي أصبح هدفا محتملا للتدجين أو الصيد أو الذبح أو البيع في سوق النخاسة التي يُعرض فيها البشر مثل البهائم . غير أن تلك الأساطير القديمة تلهم من جديد شعراء ما بعد الصدمة ليدبّجوا مدونات حقوقية تحاول أن تعود بالإنسان إلى قداسته، بينما النظم التي تفزعها هذه النصوص الحقوقية مازالت تؤكد أن مبدأ الحظيرة التي توفر الأمن والغذاء هي أهم حقوق الإنسان.

على الرغم من ولعي بالعلم فإني أميل إلى خيال الأساطير أكثر من حقيقة دراوين، وأميل إلى آدميتي وليس إلى تلك الحفريات التي تعيدني إلى صراع الغابة حيث القوي يلتهم الضعيف، مثلما أحب ملاحقة ألوان الفراشات وازدري نزيفها على أصابع معلم الأحياء.